مقاصد المكلفين (5)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نطوف حول النية وأهميتها للعبد، وفي هذا المقال نسلِّط الضوء على مسألتين جديدتين في أمر النيات.
أولهما: أن أعمال البدن قد تتوقف بخلاف النية، فهي باقية لا تتوقف.
ومثال ذلك: أمر الهجرة في سبيل الله -تعالى-، فلقد هاجر الصحابة -رضي الله عنهم- من مكة إلى بلاد الحبشة في وقت استضعاف، وكذلك هاجروا مِن مكة إلى المدينة، ولكن عندما انتشر الِإسلام، وأصبحت كلمة الله هي العليا، وأصبح للإسلام والمسلمين شوكة ومنعة، دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة في العام الثامن من الهجرة فاتحًا منتصرًا، وفي هذا الموطن أعلنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) (متفق عليه).
ومعنى الحديث: أنه لا هجرة مِن مكة بعد ما فتحها الله على نبيه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الله -سبحانه- جعلها دار إسلام بعد فتحها، فلم يبقَ هناك حاجة إلى الهجرة منها، وليس المعنى نفي الهجرة بالكلية، فالهجرة نفسها باقية؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر الصحيح: (لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وكذلك أيضًا في أمر صلة الأرحام، وغير ذلك كثير.
وأما المسألة الثانية فهي: أن قاصد فعل الخير يُؤجر ويُثاب حتى وإن لم يصب المراد.
فإذا قصد العبد القيام بفعل بطاعة يتقرب بها إلى الله -تعالى-؛ إلا أنَّ هذه الطاعة وهذا العمل لم يقع الموقع المناسب فإنّ صاحبه يؤجر ويُثاب بقصده ونيّته، والدليل على ذلك هو ما أخرجه البخاري في صحيحه عن معن بن يزيد -رضي الله عنهما- قال: كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ) فيزيد الأب لم يقصد توجيه المال الذي أخرجه إلى ابنه معن، ولكنَّ الله أثابه بنيّته الصالحة، وكتب له الأجر، وإن عاد المال إليه، يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: “فقوله -عليه الصلاة والسلام-: (لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ): يدل على أن الأعمال بالنيات، وأن الإنسان إذا نوى الخير حصل له، وإن كان يزيد لم ينوِ أن يأخذ هذه الدراهم ابنه، لكنه أخذها وابنه من المستحقين، فصارت له”.
ومِن أوضح الأدلة أيضًا على هذا المعنى: ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَال رَجُلٌ لأتَصدقَنَّ بِصَدقَةِ، فَخَرجَ بِصَدقَته، فَوَضَعَهَا في يَدِ سَارِقٍ، فَأصْبحُوا يتَحدَّثُونَ: تَصَدِّقَ الليلة علَى سارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدقَتِهِ، فَوَضَعَهَا في يدِ زانيةٍ، فَأصْبَحُوا يتَحدَّثُونَ تُصُدِّق اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زانِيَةٍ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصدقة، فَخَرَجَ بِصَدقَتِهِ، فَوَضَعهَا في يَدِ غَنِي، فأصْبَحُوا يتَحدَّثونَ: تُصُدِّقَ علَى غَنِيٍّ، فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ علَى سارِقٍ، وعَلَى زَانِيةٍ، وعلَى غَنِي، فَأتِي فَقِيل لَهُ: أمَّا صدَقَتُكَ علَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتِعفَّ عنْ سرِقَتِهِ، وأمَّا الزَّانِيةُ فَلَعلَّهَا تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وأمَّا الْغنِيُّ فَلَعلَّهُ أنْ يعْتَبِر، فَيُنْفِقَ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)، فهذا الرجل المُتصدّق، وضع جميع صدقاته الثلاث في أيدي أولئك، وهو لا يعلم عن حقيقتهم شيئًا، فالمؤمن يتحرى ويجتهد في إخراج الصدقة -وهو مأجور حتى ولو وقعت في يد غير أهلها، فهو يؤجر ويثاب على نيته وقصده؛ ولهذا نرى أن العلماء قديمًا وحديثًا على اختلاف تخصصاتهم وفنونهم، قد اهتموا بأمر النيات اهتمامًا بالغًا لما تشكله النية من أهمية كبيرة، فالنيّات تشكل مباحث هامّة في علم الأخلاق، والفقه، والأصول، والتوحيد، وغير ذلك من العلوم والفنون، ولهذا اعتنى بها شراح الحديث ومفسّرو القرآن العظيم.
ومما يدل على قدر تعظيمهم لأمرها: اعتناؤهم بالحديث الذي يُعتبر هو الأصل في موضوع النيّات، وهو حديث: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) (متفق عليه)، وقد تواترت أقوال أهل العلم مِن السلف على أهمية هذا الحديث، وأنه هو العمدة والأصل الذي لا غنى للمسلم عنه؛ فلا أجمع ولا أغنى، ولا أنفع ولا أكثر فائدة منه.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.