صفحات مِن ذاكرة التاريخ (36) التدابير التي اتخذها يزيد ضد ابن الزبير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
“حملة الحصين بن نمير – وحصار ابن الزبير – وحريق الكعبة”:
ذكرنا في المقال السابق تفاصيل حملة عمرو بن الزبير، ونستكمل في هذا المقال محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-.
لم يقم مسلم بن عقبة في المدينة أكثر مِن ثلاثة أيام بعد موقعة الحرة، ومات في السابع مِن شهر المحرم وهو في طريقه لابن الزبير، وتولى القيادة مِن بعده الحصين بن نمير السكوني، ووصل إلى مكة قبْل انقضاء شهر المحرم بأربع ليالي تقريبًا، وعسكر الحصين بن نمير بالحجون -الجبل المشرف حذاء مسجد البيعة بينه وبيْن الحرم ميل ونصف- إلى بئر ميمون -حفرها ميمون بن الحضرمي، وهي في طريق منى-، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة، والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة.
وقام ابن الزبير -رضي الله عنهما- يحثُّ الناس على قتال جيش أهل الشام، وانضم المنهزمون مِن معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدِم على ابن الزبير أيضًا نجدة بن عامر الحنفي في ناسٍ مِن الخوارج، وذلك لمنع البيت مِن أهل الشام (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وقيل: إن النجاشي -لقب لكل مَن حكم الحبشة- أرسل جماعة مِن جيشه للدفاع عن الكعبة (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثيرٍ مِن المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة، وعرض الحصين بن نمير الصلح والتسليم على عبد الله بن صفوان أحد أمراء عبد الله بن الزبير، فرفض ابن صفوان وأصر على الحرب والقتال ووافقه مَن معه (المحن لأبي العرب ص 203).
وكان مسلم بن عقبة عند موته قد أوصى الحصين، فقال: “فاحفظ عني ما أقول لك: لا تطيلنّ المقام بمكة، فإنها أرضٍ جردية لا تحتمل الدواب، ولا تمنع أهل الشام مِن الحملة، ولا تمكن قريشًا مِن أذنك فإنهم قوم خدع، وليكن أمرك الْوِقَافُ، ثُمَّ الثِّقَافُ -أي الخصام والجلاد، يريد المناجزة بالسيف- ثم الانصراف، أفهمت يا حصين؟ قَال: نعم. قَال: واعلم أنك تقدم على قوم لا منعة لهم ولا عدة ولا سلاح، ولهم جبال مشرفة عليهم، فانصب عليهم المجانيق فإن عاذوا بالبيت فارمه فما أقدرك على بنائه” (الطبقات لابن سعد).
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت مِن صفر، نشب القتال شديدًا بيْن الطرفين، ويبدو أن ابن الزبير قد حقق في البداية شيئًا مِن التكافؤ مع جيش الحصين (الطبقات لابن سعد)، لكن سرعان ما تحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن ابتلي ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخويه: المنذر وأبي بكر ابني الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير (جمهرة نسب قريش وأخبارها للزبير بن بكار).
وبعد ثلاثة أيام مِن ربيع الأول سنة 64 هـ – 683م: قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس -هو أحد أخشبي مكة، وهو جبل مطل على الصفا- وجبل قعيقعان -جبل بمكة مقابل لأبي قبيس-، وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبقَ مأمن لابن الزبير مِن أحجار المنجنيق سوى الحِجر (المحن لأبي العرب)، وحوصر ابن الزبير حصارًا شديدًا، ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح (تاريخ خليفة لابن خياط).
وقد عمد ابن الزبير إلى وضع ألواحٍ حول البيت وعلى المسجد، وألقى عليها الفرش؛ حتى توفر لهم غطاءً مِن كثرة الحجارة المنهمرة عليهم مِن أعالي الجبال، وحتى يتمكنوا مِن أداء الصلاة والطواف حول الكعبة، وقد جعل ابن الزبير فسطاطًا في المسجد فيه نساء يسقين الجرحى ويطعمن الجائع (تاريخ دمشق لابن عساكر).
وفي أثناء احتدام االمعارك بيْن ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة، وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرَّم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- القتال فيه، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة للحافظ ابن حجر)، ولم يعلم أحدٌ بموته؛ نظرًا لبعد المسافة بيْن مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين.
ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق، بل كان نتيجة حريق في الخيام المحيطة بها، والدليل على ذلك: ما أحدثه حريق الكعبة مِن ذهولٍ وخوفٍ مِن الله في كلا الطائفتين: جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير؛ فقد نادى رجل مِن أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة، وقال: “هلك الفريقان! والذي نفس محمد بيده” (تاريخ خليفة لابن خياط).
وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفًا مِن أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجدًا، ويقول: “اللهم إني لم أتعمد ما جرى؛ فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بيْن يديك” (مواقف المعارضة للشيباني).
ولا شك أن أحدًا مِن أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين (منهاج السنة لابن تيمية)، ولكن يُؤخذ على أهل الشام أنهم يعلمون جيدًا أن إحتمالية وقوع الضرر بالكعبة قائمة، ومع ذلك لم يراعوا هذا الأمر.
وهناك بعض الروايات التى تشير إلى أن الحصين بن نمير قد عرض على ابن الزبير بعد موت يزيد أن يتولى الخلافة حقنًا لدماء المسلمين، ولكن بشرط أن يتوجه معه إلى بلاد الشام؛ فرفض ابن الزبير هذا العرض وطلب المقام في مكة (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
ثم انسحب جيش الشام بعد ذلك، وحينما نحاول أن نقوِّم حركة ابن الزبير، ومدى تأثيرها على المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، فإننا نجد أن نتيجة الحرب التي دارت بيْن الحصين وابن الزبير، لم تصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ بسبب وفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الشام، ولكننا نشير إلى عدم رضا كثيرٍ مِن الصحابة عن معارضة ابن الزبير وموقفه، وهذا يظهر جليًّا في موقف ابن عمر -رضي الله عنهما-، وهو أفضل وأفقه أهل زمانه حيث إن يزيد بن معاوية -في نظره- يمثِّل الخليفة الشرعي للمسلمين، وأنه قد أعطي البيعة؛ ولذا لا يجوّز الخروج عليه.
وقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعلم نتائج معارضة ابن الزبير، حيث سيكون هناك حربٌ و قتالٌ بيْن المسلمين، ويُقتل الناس تبتلى الأمة، وتُعَطّل الثغور ويتوقف الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مِن المفاسد التي يعتقد ابن عمر أنها ستحدث لا محالة إذا استمر ابن الزبير في معارضته.
ولكي يصرف ابن عمر الناس عن مناصرة ابن الزبير فقد قال بأن قتال ابن الزبير إنما هو لأجل الدنيا (المصنف لابن أبي شيبة بسندٍ صحيح)، وأخذ يخبر الناس ويحذرهم أن قتالهم ومناصرتهم لابن الزبير إنما هو قتال على الملك فقط (البخاري مع الفتح (4513) كتاب التفسير، وأحمد المسند (5690) وصحح إسناده أحمد شاكر)، ولم يكتفِ ابن عمر بذلك، بل كان دائم المناصحة لابن الزبير و يحذِّره مِن عواقب الفتن، وكان يعرّفه بأن نهاية هذه المعارضة ستكون بائسة له (شرح النووي على مسلم).
ولا شك أن كلام ابن عمر وموقفه في الفتن يستحق التوقف والتدبر للخروج بحصيلةٍ علميةٍ راسخةٍ نستفيد منها في واقعنا المعاصر.
وهكذا كان موقف ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو فقيه عالمٌ مفسّرٌ للقرآن، مِن أشد المعارضين لموقف ابن الزبير، فلم يُنقل عنه أنه كان راضيًا عن ابن الزبير أو أنه تعاطف مع معارضته، بل إنه لم يبايعه بعد وفاة يزيد بن معاوية، وكان يصرِّح بأنه إذا كان تحت حكم بني أمية خيرٌ له مِن حكم ابن الزبير (البخاري مع الفتح 8/ 177)، ولم يكن راضيًا عن شخص ابن الزبير، ويفضِّل عليه معاوية بن أبي سفيان (المعجم الكبير للطبراني، والمصنف لعبد الرزاق)، بل وكان يحمِّله جزءًا مِن المسؤولية عن إحلال القتال ببيت الله (البخاري مع الفتح 8/ 177).
وهكذا كان موقف أبي برزة الأسلمي وجندب بن عبد الله البجلي -رضي الله عنهما-، و قولهم جميعًا بأن قتاله مِن أجل الدنيا إنما كان بسبب النظرة إلى الفتن التي تجري بيْن المسلمين في ذلك الحين، ويهدفون إلى تحذير كل مَن يلتحق، أو ينوي لانضمام لأيٍ مِن الطائفتين.
ومراد هؤلاء الصحابة الذين نقلنا عنهم رأيهم في قتال ابن الزبير وأنه كان مِن أجل الدنيا، هو تثبيط الناس عن الاشتراك معه، ومعرفتهم بأن النتائج التي ستترتب على أي قتالٍ يحدث هي أعظم مِن المنفعة المرجوة بعده؛ فهذا ابن عمر يترحم على ابن الزبير بعد أن قتله الحَجّاج، ويقول: “لقد كنتَ صوّامًا قوّامًا تصِل الرّحم”. و يقول أيضًا: “رحمك الله، لقد سَعِدَتْ أمة أنت شرُّها!” (مسلم بشرح النووي 16/ 99).
ولا شك أن هؤلاء الصحابة قد آلمهم تعريض ابن الزبير الحرم للقتال والحرب؛ لما له مِن مكانةٍ وحرمةٍ، فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول عن الحرم: “لو وجدتُ فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه!” (المصنف لابن أبي شيبة).
وبالرغم مِن القتال الذي دار بسببه؛ إلا أن القتل الذي أصاب إخوته وأصحابه وأصابه هو نفسه، فإنه مكفِّرٌ -بإذن الله- عما اقترف مِن الذنوب، ولذا قال ابن عمر -رضي الله عنهما- مخاطبًا ابن الزبير وهو مصلوب: “أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما قد عملت مِن الذنوب ألا يعذبك الله” (أخرجه الحاكم في المستدرك).
ثم إن بعض الذين قاموا مع ابن الزبير -رضي الله عنهما- همْ مِن الصحابة الأجلاء، فمعاذ الله أنهم قاموا وقاتلوا وقٌتِلوا مِن أجل الدنيا، بل لقد كان مقصدهم -رضي الله عنهم- هو تغيير الواقع بالسيف، لمّا رأوا تحول الخلافة إلى وراثة وملك، ولقد كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يهدف مِن وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى، ويتولى الأمة أفضلها، وكان يخشى مِن تحول الخلافة إلى مُلك.
وكان يرى -رضي الله عنه- أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة، ولهذا لم يدعو لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد).
فهو وإن أخطأ؛ فإنه مجتهد مأجور بلا أدنى شك.
ومع ذلك فإن التمسك بنصوص الكتاب والسُّنة بلزوم الجماعة، والتي تحذر مِن شق عصا الطاعة، هو أولى مِن الذي أقدم عليه ابن الزبير وأهل المدينة؛ فكم مِن دمٍ أريق وامرأة ترمَّلت وطفلٍ تيتَّم، ومالٍ نُهِب وأضيع، وغير ذلك مِن المفاسد، وبما أن كل طرفٍ يقاتل ويرى أنه على حق؛ فلهذا سمَّى السلف معارضة ابن الزبير فتنة (التاريخ الكبير للبخاري، وتاريخ دمشق لابن عساكر).
وذلك لأنه قتال بيْن المسلمين لا نفع مِن وراءه ولا خير، فالكل يقاتل عن تأويل، ومع ذلك نقول كما قال الذهبي: “فليته -أي ابن الزبير- كفَّ عن القتال لمّا رأى الغلبة، بل ليته ما التجأ إلى البيت. نعوذ بالله مِن الفتنة الصَّـمَّـاء” (سير أعلام النبلاء للذهبي).