مقالات تاريخية

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (33) وماذا بعد موقعة الحرَّة؟!

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق تفاصيل معركة الحرَّة بعد خلع أهل المدينة ليزيد بن معاوية، ونقضهم البيعة وما آلت إليه الأمور في جيش أهل المدينة بعد هزيمتهم.

أعمال مسلم بن عقبة بعد معركة الحرَّة:

– نهب المدينة:

لقد اشتٌهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام مِن شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا؛ وذلك لأن معركة كانت لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة، وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الانتهاب، فقد قال: “وظفر مسلم بن عقبة بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثًا” (الطبقات الكبرى لابن سعد).

وقد وردتْ لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسئولية انتهاب المدينة، فعندما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد، قال: “هو الذي فعل بالمدينة ما فعل!”، قلتُ: “وما فعل؟”، قال نهبها” (السُّنة للخلال).

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: “فبعث إليهم -أي أهل المدينة- جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا” (الوصية الكبرى لابن تيمية)، وذهب إلى ذلك ابن حجر (تهذيب التهذيب)، وبهذا قال ابن كثير (البداية والنهاية)، وأبو الفدا(1)، وغيرهم.

ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب مِن المدينة، والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، فقد هرب مِن المدينة ودخل غارًا والسيف في عنقه، ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: “لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه، فوضع أبو سعيد السيف، وقال: بؤ بإثمي وإثمك. قال: أنت أبو سعيد الخدري؟! قال: نعم. قال: فاستغفر لي، فخرج” (تاريخ خليفة لابن خياط).

ونود أن نشير إلى أن النهب لم يشمل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيرهما مِن الذين لم يقفوا بجانب المعارضين، وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال، وتعرف فيه معارضة للحكم الأموي (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، ثم إن الذين قاموا بالنهب فئة مِن الجيش وليس الجيش كله؛ لأن الجيش يضم أخلاطـًا مِن الناس، فالجيش الشامي تعداده حوالي اثني عشر ألف مقاتل (المرجع السابق).

ما قيل حول انتهاك الأعراض:

بعد التتبع لكتب التاريخ التي تُعد بمثابة العٌمدة حول أحداث موقعة الحرة، مثل: (تاريخ الطبري، وأنساب الأشراف للبلاذري، وتاريخ خليفة بن خياط، وطبقات ابن سعد)، لم نجد ما يشير إلى وقوع انتهاك أعراض النساء مِن قِبَل جيش يزيد، وأول مَن أشار إلى انتهاك الأعراض: المدائني -المتوفى سنة 225هـ- حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان، قال: “وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة مِن غير زوج!”، ويعتبر ابن الجوزي هو أول مَن أورد هذا الخبر في تاريخه مِن طريق هشام بن حسان، قال: “ولدت ألف امرأة بعد الحرة مِن غير زوج” (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي).

وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة، المتوفى في القرن العاشر الهجري، وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي مِن طريق يعقوب بن سفيان، قال: “حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء! ومِن الجدير بالذكر أن كل مَن أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط، وكلاهما لا تصح ولا تثبت(2).

ويبدو أن الطبري، والبلاذري، وخليفة بن خياط، وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة، وقد أورد هذا الخبر أيضًا ابن كثير (البداية والنهاية)، وقد أقر بوقوع انتهاك الأعراض أيضًا ابن تيمية(3)، وابن حجر (الإصابة)، ومع ذلك لم يوردا مصادرهما التي استقيا منها معلوماتهما تلك، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة لا تثبت أي نوع مِن الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكرت انتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض، ومِن المعلوم أن وقوع حالات الاغتصاب هي أعظم وأشد مِن النهب، فلو كانت واقعة مع حالات النهب لذكرها الرواة الذين ذكروا وقوع النهب.

ثم إن المدينة في هذا التوقيت كانت تضم بيْن جنباتها كثيرًا مِن الصحابة وأهل التقوى والصلاح، فكيف يسكت هؤلاء على وقوع هذا الجٌرم دون إنكار؟! ولم يرد ذكر انتهاك الأعراض على لسان كبار الصحابة الذين شهدوا الواقعة، ولم يٌعرف عن أحدٍ مِن المسلمين الوقوع في هذا الفعل حتى مع الكافرات، منذ عصر الرسالة وحتى عصر الفتوحات، وذلك مع كثرة الفتوحات؛ فكيف يكون هذا مع المسلمات العفيفات؟! فلا بد مِن وجود أدلة صريحة وصحيحة، واعتراف مِن أهل الزمان والمكان للاعتراف بوقوع هذا الجرم العظيم (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

أخذ البيعة مِن أهل المدينة ليزيد بن معاوية ووفاة مسلم بن عقبة:

تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة مِن المدنيين مِن أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبيِّن أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة مِن أهل المدينة على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، وتضيف إحدى الروايات: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم (أنساب الأشراف للبلاذري).

وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة مِن أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيدٍ ليزيد في طاعة الله ومعصيته! وهذه الرواية سندها ضعيف (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، وليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمَن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم مِن الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟! والذي يبدو مِن خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت مِن جميع الناس (تاريخ دمشق لابن عساكر).

فعن جابر بن عبد اللَّه قال: لما قدم مسلم بن عقبة المدينة بايع الناس -يعني بعد وقعة الحرّة- قال: “وجاءه بنو سلمة فقال: لا أبايعكم حتى يأتي جابر، قال: فدخلت على أم سلمة أستشيرها، فقالت: إني لأراها بيعة ضلالة، وقد أمرت أخي عبد اللَّه بن أبي أمية أن يأتيه فيبايعه. قال: فأتيته فبايعته”(4)، ولعل بني أمية بايعوا ليزيد ليكونوا قدوة للناس وتأكيدًا على طاعتهم له، حتى إن علي بن الحسين قد أٌتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل على أن أهل المدينة جميعًا، الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة (البداية والنهاية لابن كثير).

ولقد وردت روايات أخرى تبيِّن أن هذه البيعة كانت لفئةٍ معينة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة (المحاسن والمساوئ للبيهقي)، فالله أعلى وأعلم بالصواب، وقد قام مسلم بقتل ثلاثة مِن قادة حركة المعارضة، وهم: يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود، ومحمد بن أبى الجهم بن حذيفة العدوى، ومعقل بن سنان الأشجعي.

وفي النهاية بايع الجميع ولو مكرهًا أو خوفًا مِن القتل؛ لا سيما مع القسوة والشدة مِن قِبَل مسلم بن عقبة، وبهذا تم القضاء على حركة المعارضة، ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته (البداية والنهاية لابن كثير)، علمًا بأن مسلمًا لم يفاجئ أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، وحاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلمًا امتنع مِن حصار المدينة المحرمة وقتال أهلها، ولكنه دخل معهم في معركة طاحنة، وأنزل بأهل المدينة روعًا عظيمًا، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وانتهت المعركة واستسلمت المدينة.

وفي أوّل المحرم مِن عام 64 هـ – 683م بعد فراغ مسلم مِن حرب المدينة، سار إلى مكة قاصدًا قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش -مكان مرتفع مِن طريق مكة، قريبة مِن الجحفة يرى منها البحر- بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني. ثم دعا به فقال: احفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبْل ثلاث، ثم مات ودفن بالمُشلل -بيْن مكة والمدينة-.

قراءة وتحليل حول موقعة الحرَّة:

لا شك أن القتال الذي حدث بيْن المسلمين في القرن الأول الهجري هو مِن الفتن والمصائب التي حلَّت بالمسلمين؛ لأنه اشتبه على كثيرٍ مِن الناس الحق والباطل؛ لذا قد اعتزل كثيرٌ مِن الصحابة أحداث موقعتي الجمل وصفين، وذلك نظرًا لالتباس الأمور عليهم وعدم وضوح الحق، أو حقنًا لدماء المسلمين؛ لأن المنازع هو مِن المسلمين وقد حٌرم دمه وماله وعرضه، وقد اعتمد هؤلاء على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟! قَالَ: (كُنْ كَابْنِ آدَمَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)

ولا شك أن معركة الحرَّة كانت مؤسفة للغاية، وهو خطأ بلا شك قد وقع فيه كثيرون مِن أهل المدينة، وجٌرم ارتكبه بعض أهل الشام، وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، وكذلك أهل المدينة يتحملون مسئولية كبيرة؛ لأنهم أصروا على موقفهم، ولم يسمعوا نصيحة أكابر الصحابة حول نقضهم البيعة، لكن ما حدث لا يدعونا إلى الإنكار لهذه الأحداث بالكلية.

وكذلك لا نقبل التضخيم والتهويل، ولا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظنَّ أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدادت المفسدة، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!

وهناك أسباب كثيرة أدتْ إلى هزيمة أهل المدينة، منها:

عدم وجود القائد الحكيم الذي يستطيع أن يزن الأمور بميزانها الصحيح المعتبر، فلا بد للقائد أن يجيد فهم الواقع، وأن يجيد الترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وأن يجيد فقه الحركة، بمعنى: متى يتقدم؟ ومتى يتأخر؟ ومتى يثبت مكانه؟ 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. فَإِذَا تَوَلَّى خَلِيفَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ: كَيَزِيدَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْمَنْصُورِ، وَغَيْرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ مَنْعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَقِتَالُهُ حَتَّى يُوَلَّى غَيْرُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرَى السَّيْفَ؛ فَهَذَا رَأْيٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَفْسَدَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا. وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَا صَلَاحُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْمَدُوا مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْقِتَالِ(5)، وَهُمْ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحْسَنُ نِيَّةً مِنْ غَيْرِهِمْ”.

وإذا تأملنا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- نلحظ أنه كان دقيقًا جدًّا في اختيار ألفاظه، فلقد قال: “وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ”.

ومعنى على إمام ذي سلطان: أي ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير، كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذي حلَّ بآخر خلفاء عصر بني أمية، ولما حلَّ الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع عبد الرحمن الداخل أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامتْ بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية، وفي مصر والشام: قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفىة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكلية فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ؛ فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى أو أن يولي ويعزل مَن شاء؛ لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير، فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد.

ومِن أهم أسباب الفشل أيضًا: تعدد القادة؛ لأن تعدد القوّاد في المعركة مِن دواعي الهزيمة، وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سئل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “أميران؟ هلك القوم!” (العقد الفريد لابن عبد ربه).

ثم تأمل البون الشاسع بيْن الجيشين، جيش كبير منظم له أهدافه وخططه الواضحة، وجيش آخر يرفع جنوده بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع، ومآلات الأمور وعواقبها.

ولا بد للقائد أن يكون ملمًا بكل شيء يحدث مِن حوله، ويجيد السياسة والحنكة أثناء المفاوضات إن وجدت، وأثناء التعامل مع الخصم، ولا بد أن يكون شجاعًا مضحيًّا في سبيل ما يؤمن به، ولكننا إذا تأملنا -على سبيل المثال- حال عبد الله بن مطيع نراه على العكس مِن ذلك تمامًا، فلقد فرَّ هاربًا إلى مكة بعد ما أيقن وقوع الهزيمة في أهل المدينة، وترك أتباعه يقتلون على أبواب الدور والمساجد، وهكذا عبْر الأزمنة تجد مَن يحرِّض الناس ويحثهم ويشجعهم على القتال والثبات حتى الموت، ثم تراه يفر هاربًا مِن ساحة القتال، فسبحان الله! فالتاريخ يتكرر كما هو في كثيرٍ مِن الأحداث.

ومِن دواعي الفشل: قلة ما تحت أيديهم مِن الأرزاق، ولو استمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس مِن الجوع؛ لأن ما بها مِن الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أيامًا، وجٌل طعامها يأتيها مِن التجارة، أو مِن بساتين خارج حدود المدينة، ثم إن زعامة المدينة المنورة لم تكن راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان مِن المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم، وعلى رأس آل الخطاب شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم: عبد الله بن عمر، ومِن آل هاشم: عبد الله بن العباس، وعلى بن الحسين، ومحمد بن الحنيفة.

وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث -كما ذكرنا-، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، والله المستعان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أبو الفدا: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفى 732هـ) المختصر في أخبار البشر، الناشر: المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، عدد الأجزاء: 4 (1/192).

(2) قد قام الشيباني بدراسة عميقة حول هذا الموضوع، وأثبت ضعف هذه الروايات، انظر أسباب رد الخبرين مِن جهة السند (الشيباني، المرجع نفسه، ص 549).

(3) قال ابن تيمية -رحمه الله-: “والأمر الثاني: نقض أهل المدينة لبيعة يزيد، فقد نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم يزيد جيشًا لإخضاعهم، وأمر القائد إذا لم يطيعوا ولم يرجعوا إلى الطاعة خلال ثلاثة أيام أن يدخلها بالسيف، وأن يبيحها مدة ثلاثة أيام، فمن زنى أو سرق أو قتل فلا يقام عليه الحد، هذا معنى الإباحة، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون مَن شاءوا، وينهبون ما شاءوا، ويفتضون الفروج المحرمة، ثم أرسل يزيد جيشًا إلى مكة المشرفة فحاصروا مكة؛ لأن فيها عبد الله بن الزبير، فتوفي يزيد وهم يحاصرون مكة” (انظر الوصية الكبرى، ص 45).

(4) الإصابة لابن حجر (4/ 12) بإسنادٍ حسن، وقال ابن حجر: “ويحتمل في هذا أن يكون الصواب: فأمرتُ ابن أخي… “.

(5) يرى شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للقتال كان هو الأولى، وجمهور العلماء يقولون إن عليًّا -رضي الله عنه- كان على الحق، والنصوص تثبت ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى