صفحات مِن ذاكرة التاريخ (19) موقعة الجمل “الأسباب والنتائج”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق دور السبئية في نشوب الحرب بيْن الطرفين بعد ما اتفقا على الصلح، وذكرنا بعض الأحداث التي وقعتْ في موقعة الجمل، وكيف تعامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مع جيش البصرة بعد انتهاء المعركة.
ونستكمل اليوم ما حدث بعد انتهاء المعركة.
نداء أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد الحرب:
وبعد أن هدأت الأمور وانتهت الحرب، وأُخرجتْ أم المؤمنين عائشة مِن الميدان، نادى منادي علي: أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا مدبرًا، ولا يدخلوا دارًا، ومَن ألقى السلاح فهو آمن، ومَن أغلق بابه فهو آمن، وليس لجيشه مِن غنيمة، ونادى منادي أمير المؤمنين فيمن حاربه مِن أهل البصرة مَن وجد شيئًا مِن متاعه عند أحدٍ مِن جنده؛ فله أن يأخذه.
وقد ظن بعض الناس في جيش علي أن عليًّا -رضي الله عنه- سيقسم بينهم السبي، فتكلموا به ونشروه بيْن الناس، ولكن سرعان ما فاجأهم علي -رضي الله عنه-، حين أعلن في ندائه: وليس لكم أم ولد، والمواريث على فرائض الله، وأي امرأة قُتل زوجها؛ فلتعتد أربعة أشهر وعشرًا. فقالوا مستنكرين متأولين: يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم، ولا تحل لنا نساؤهم؟ فقال علي -رضي الله عنه-: كذلك السيرة في أهل القبلة، ثم قال: فهاتوا سهامكم وأقرعوها على عائشة -رضي الله عنها- فهي رأس الأمر وقائدهم، ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟! فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا. وقالوا: نستغفر الله، وتبيَّن لهم أن قولهم وظنهم خطأ فاحش، ولكن ليرضيهم قسم عليهم -رضي الله عنه- مِن بيت المال خمسمائة خمسمائة(1).
وبعد انتهاء المعركة خرج علي -رضي الله عنه- يتفقد القتلى مع نفر مِن أصحابه، فأبصر محمد بن طلحة “السجاد” فقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شابًا صالحًا، ومر علي -رضي الله عنه- على طلحة -رضي الله عنه- بعد ما قٌتل، فجعل علي يَمسح التراب عن وجهه ويبكي ويقول: “عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً في التراب تحت نجوم السماء!”، ثم قال: “إلى الله أشكو عجري وبجري”(2).
وبعد خروج الزبير بن العوام -رضي الله عنه- مِن المعركة تبعه عمرو بن جرموز فهجم عليه فقتله ثم احتز رأسه وذهب إلى عليٍّ، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن للدخول على علي، فقال عليُّ -رضي الله عنه-: “بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ”، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ)(3).
ولما رأى علي -رضي الله عنه- سيف الزبير -رضي الله عنه- قال: إن هذا السيف طالما فرَّج الكرب عن وجه رسول الله, وفي رواية: منع أمير المؤمنين علي ابن جرموز مِن الدخول عليه، وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار(4)، ثم صلى علي -رضي الله عنه- على قتلى الفريقين، ثم قعد علي كئيبًا حزينًا ودعا للقتلى بالمغفرة، وترحم عليهم وأثنى على عددٍ منهم بالخير والصلاح, وعاد إلى منزله فإذا امرأته وابنتاه يبكين على عثمان وقرابته، والزبير وطلحة وغيرهم مِن أقاربهم القرشيين. فقال لهن: إني لأرجو أن نكون مِن الذين قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الحجر:47)، وهكذا مرَّت الأحداث الجسام، إنها حقـًّا فتنة عظيمة مرَّت على الأمة، وواجهت القبائل المختلفة بعضها بعضًا في رحى معركة ضارية، مضر البصرة واجهت مضر الكوفة، وربيعة البصرة واجهت ربيعة الكوفة، ويمن البصرة واجهت يمن الكوفة، ووجدت القبائل نفسها في أتون معركة تدفع ثمنها مِن أرواح أبنائها(5).
مبايعة أهل البصرة:
كان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- حريصًا على وحدة الصف، واحترام الجميع، ومعاملتهم المعاملة الكريمة، وكان لهذه المعاملة أثر بالغ في مبايعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وكان أمير المؤمنين قد وضع الأسرى في مساء يوم الجمل في موضع خاص، فلما صلى الغداة طلب موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقربه ورحب به وأجلسه بجواره وسأله عن أحواله وأحوال إخوته، ثم قال له: إنا لم نقبض أرضكم هذه ونحن نريد أن نأخذها، إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس، ودفع له غلتها، وكذلك فعل مع أخيه عمران بن طلحة فبايعاه، فلما رأى الأسارى ذلك دخلوا على علي -رضي الله عنه- يبايعونه، فبايعهم وبايع الآخرين على راياتهم قبيلة قبيلة(6).
كما سأل عن مروان بن الحكم وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد مِن شباب قريش، وقد أرسل مروان إلى الحسن والحسين وابن عباس -رضي الله عنهم- ليكلموا عليًّا فقال علي: هو آمن فليتوجه حيث شاء، وقد أثنى مروان -رضي الله عنه- على أفعال أمير المؤمنين علي فقال لابنه الحسن: ما رأيتُ أكرم غلبة مِن أبيك، ما كان إلا أن ولَّينا يوم الجمل حتى نادى مناديه: ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح(7)، وبذلك تمتْ بيعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وولى عليهم ابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-(8)، وقد جاء عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي إلى أمير المؤمنين فبايعه فقال له علي: أين المريض؟ -يعني أباه- فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص. فقال: امشِ أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع وقال: رجل مِن أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع مِن زياد(9).
وجاء أمير المؤمنين إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فاستأذن وسلَّم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على مَن قُتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها علي شيئًا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضًا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال: ويحك إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟!(10).
أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يرد عائشة -رضي الله عنها- إلى مأمنها:
جهز أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- عائشة -رضي الله عنها- بكل شيء ينبغي لها مِن مركبٍ وزاد ومتاع، وأخرج معها مَن نجا ممن خرج معها إلا مَن أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة مِن نساء أهل البصرة المعروفات لمرافقتها في السفر، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وخرجتْ مِن الدار في الهودج، فودعت الناس ودعت لهم وقالت: “يا بني، لا يغتب بعضكم بعضًا، إنه والله ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في القديم إلا ما يكون بيْن المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار”، فقال علي -رضي الله عنه-: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة. وخرجتْ يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علي أميالاً، وسرح بنيه معها يومًا(11).
وبتلك المعاملة الكريمة مِن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- نراه قد اتبع ما أوصاه به نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- عندما قال له: (إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ)، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (لَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا)(12).
هذا وقد ظهر موقف أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- ممن ينال مِن عائشة -رضي الله عنها-؛ فلقد جاء إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين، إن على الباب رجلين ينالان مِن عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما مِن ثيابهما, وقد قام القعقاع بذلك(13)، وقد ندمت عائشة -رضي الله عنها- على خروجها، وكانت إذا قرأت قوله -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب:33)، تبكي حتى تبل خمارها، وكانت كلما تذكرت الجمل قالت: “وددتُ أني كنتُ جلستُ كما جلس صواحبي”(14).
تاريخ معركة الجمل:
كانت هذه الموقعة في شهر جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين مِن الهجرة، وقد اختلف المؤرخون في اليوم الذي وقعتْ فيه.
عدد القتلى: أسفرت هذه الحرب الشديدة عن عددٍ مِن القتلى اختلفت وتباينت في تقديره الروايات, ذكر الطبري في تاريخه عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم مِن أصحاب علي، ونصفهم مِن أصحاب عائشة، مِن الأزد ألفان، ومِن سائر اليمن خمسمائة، ومِن مضر الفان، وخمسمائة مِن قيس، وخمسمائة مِن تميم، وألف مِن بني ضبة، وخمسمائة مِن بكر بن وائل. وقيل: قتل مِن أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل مِن أهل البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل مِن أهل البصرة، ومِن أهل الكوفة خمسة آلاف. قالا: وقتل مِن بني عدي يومئذٍ سبعون شيخًا، كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومَن لم يقرأ القرآن(15).
وقال قتادة: إن قتلى يوم الجمل عشرون ألفًا. وأما اليعقوبي فقد جاوز هؤلاء جميعًا؛ إذ وضع عدد القتلى اثنين وثلاثين ألفًا(16)، هذا وقد أورد خليفة بن خياط بيانًا بأسماء مَن حُفظ مِن قتلى يوم الجمل فكانوا قريبًا مِن المائة(17), فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين وليس مائة، فإن هذا يعنى أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين. وهذا هو الرقم الذي ترجَّح لدى خالد بن محمد الغيث في رسالته “استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري – دراسة نقدية”(18).
وعلى أي الأحوال فالذين قُتلوا يوم الجمل عدد ليس بقليل، فزوال الدنيا عند الله -تعالى- أهون مِن سفك دم مسلم واحد.
وهكذا نتعلم مِن التاريخ أنه في وقت الفتن تطيش العقول، ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وإذا تأملنا أحداث موقعة الجمل، نرى أنه كان مِن الصعوبة بمكان أن يسيطر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الأحداث، وذلك لوجود عددٍ مِن السبئية في الصف ممن يهيجون المشاعر وينشرون الفتن، وإذا تعالت الأصوات وكثر الصراخ بيْن الناس وكثرت الشائعات في المجتمع، أدى كل ذلك إلى ضعف صوت العقل، فلا يسمعه إلا القليل مِن الناس ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لابد مِن مراعاة الواقع والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، ولا بد مِن تحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولا بد مِن تفعيل قاعدة فقه المآلات؛ فلقد قلَّ بيْن الناس مَن ينظر بعين العقل إلى عواقب الأمور.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 550.
(2) أي همومي وأحزاني وغُمُومِي، انظر ابن منظور، لسان العرب ج4 ص40.
(3) رواه أحمد والحاكم، وحسنه ابن حجر.
(4) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 261).
(5) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 541، والمصنف لابن أبي شيبة (7/540).
(6) الطبقات لابن سعد ج3 ص 224.
(7) الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي للماوردي، وهو شرح مختصر المزني.
(8) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي، الفتنة ووقعة الجمل، ص 181.
(9) البداية والنهاية ج7 ص 357.
(10) البداية والنهاية ج7 ص 356.
(11) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان.
(12) مسند أحمد (6/ 393)، إسناده حسن، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55.
(13) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص 358.
(14) سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 177)، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55.
(15) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 542.
(16) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 546.
(17) تاريخ خليفة بن خياط ص 191.
(18) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، للصلابي، ص 579.