صفحات من ذاكرة التاريخ (8) الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- “الأسباب والنتائج”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا ونحن نتأمل حال الثورات عبْر مراحل التاريخ الإسلامي نعرض المآخذ التي أخذها المجرمون الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ونبيِّن الرد عليها.
فمِن هذه المآخذ:
قالوا: ولم يَقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان “الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة، وحرضه على عمر حتى قتله”.
فقد طٌعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على يد أبي لؤلؤة المجوسي، ثم قَتل أبو لؤلؤة نفسه بعدها، ولم يمت عمر -رضي الله عنه- في اليوم الذي طعن فيه، وقبْل موت عمر أتى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وقال إنه رأى الهرمزان (وهو رجل فارسي)، يتناجى في السر مع أبي لؤلؤة المجوسي، فارتاب في أمرهما، فاقترب منهما، ثم هجم عليهما فجأة، فسقط منهما خنجر له رأسان، ثم ذهبوا فالتمسوا الخنجر الذي طعن به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فوجدوه بنفس مواصفات الخنجر الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فتيقن القوم أن الهرمزان مشارك لأبي لؤلؤة المجوسي في التخطيط لقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فسمع بذلك عبيد الله بن عمر بن الخطاب، فأمسك -أي لم يتصرف- حتى مات عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فحمل سيفه وخرج، فقتل الهرمزان، فلما تولى عثمان بن عفان الخلافة نظر في القضية.
– يقول الطبري -رحمه الله-: “جلس عثمان في جانب المسجد ودعا عبيد الله، وكان محبوسًا في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف مِن يده. فقال عثمان لجماعةٍ مِن المهاجرين والأنصار: أشيروا عليَّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق. فقال علي بن أبي طالب: أرى أن تقتله.
فقال بعض المهاجرين: قٌتل عمر أمس، ويٌقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن الله أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك. قال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية، واحتملتها في مالي”.
– قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: “وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان؛ فإن ذلك باطل، فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون، والأمر في أوله، وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه، وكان قتل عبيد الله له وعثمان لم يلِ بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقـًّا؛ لما ثبت عنده مِن حال الهرمزان وفعله، وأيضًا فإن أحدًا لم يقم بطلبه” اهـ.
– وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السُّنة: “فالجواب الأول: أن عبيد الله كان متأولًا أن الهرمزان أعان على قتل أبيه، فكانت هذه شبهة مانعة مِن وجوب القصاص، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومُ الدَّمِ يَحْرُمُ قَتْلُهُ، لَكِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُتَأَوِّلًا يَعْتَقِدُ حِلَّ قَتْلِهِ لِشُبْهَةٍ ظَاهِرَةٍ، صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْقَتْلَ عَنِ الْقَاتِلِ، كَمَا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَعْصِمُهُ، عَزَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْكَلَامِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا، لَكِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ أُسَامَةُ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْقَتْلِ، فَشَكَّ فِي الْعَاصِمِ، وَإِذَا كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُتَأَوِّلًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، صَارَتْ هَذِهِ شُبْهَةً يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا الْمُجْتَهِدُ مَانِعَةً مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ مَسَائِلَ الْقِصَاصِ فِيهَا مَسَائِلٌ كَثِيرَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ”.
وقد قال عبد الله بن عباس لما طعن عمر -وقال له عمر: كنت أنتَ وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة-: “إن شئت أن نقتلهم”. فقال عمر: “كذبت، أفبعد أن تكلموا بلسانكم، وصلوا إلى قبلتكم؟!”.
– قال ابن تيمية -رحمه الله-: “فهذا ابن عباس -وهو أفقه مِن عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير- يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقـًا الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد، اعتقد جواز مثل هذا، وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان مِن المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك. ولو قُدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله، لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة؛ صار ذلك شبهة تدرأ عن القاتل -يعني عن عبيد الله بن عمر-.
وأما الجواب الثاني: فهو أن الْهُرْمُزَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَوْلِيَاءٌ يَطْلُبُونَ دَمَهُ، وَإِنَّمَا وَلِيُّهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ، وَمِثْلُ هَذَا إِذَا قَتَلَهُ قَاتِلٌ كَانَ لِلْإِمَامِ قَتْلُ قَاتِلِهِ؛ لِأَنَّهُ وَلَيُّهُ، وَكَانَ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ؛ لِئَلَّا تَضِيعَ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ” اهـ.
– وقال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: “وإلى هذا ذهب عثمان في اكتفائه بالدية واحتملها مِن ماله الخاص. ولو أن حادث مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -بجميع ظروفه- وقع مثله في أي بلد آخر مهما بلغ في ذروة الحضارة لما كان منهم مثل الذي كان مِن الصحابة في تسامحهم إلى حد المطالبة حتى بقتل ابن أمير المؤمنين المقتول بيد الغدر والنذالة والبغي الذميم”.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: “وأما أول حكومة حكم عثمان فيها: فَقَضِيَّةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَدَا عَلَى ابْنَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَاتِلِ عُمَرَ فَقَتَلَهَا، وَضَرَبَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا يُقَالُ لَهُ جُفَيْنَةُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَضَرَبَ الْهُرْمُزَانَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ تستر فقتله، وكان قد قيل إنهما مالآ أَبَا لُؤْلُؤَةَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ -فَاللَّهُ أَعْلَمُ-، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ قَدْ أَمَرَ بِسَجْنِهِ لِيَحْكُمَ فِيهِ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ وَجَلَسَ لِلنَّاسِ كَانَ أَوَّلَ مَا تُحُوكِمَ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا مِنَ الْعَدْلِ تَرْكُهُ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: أَيُقْتَلُ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ وَيُقْتَلُ هُوَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ بَرَّأَكَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، قَضِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ فِي أَيَّامِكَ فَدَعْهَا عَنْكَ، فَوَدَى عُثْمَانُ -رضي الله عنه- أُولَئِكَ الْقَتْلَى مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، إِذْ لَا وَارِثَ لَهُمْ إِلَّا بَيْتُ الْمَالِ، وَالْإِمَامُ يَرَى الْأَصْلَحَ فِي ذَلِكَ، وَخَلَّى سَبِيلَ عُبَيْدِ اللَّهِ” اهـ.
– وفي رواية عند الطبري عن شعيب، عن سيف، عن أبي منصور، قال: “سمعت القماذبان -هو ابن الهرمزان- يحدث عن قتل أبيه قال: فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه -أي مِن عبيد الله بن عمر بن الخطاب- ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك، وأنتَ أولى به منا؛ فاذهب فاقتله. فخرجتُ به وما في الأرض أحدٌ إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا. وسبوه. فتركته لله ولهم. فاحتملوني. فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم!”.
وبهذا يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- لم يَترك عبيد الله بن عمر، ولم يغفل هذه القضية، وبهذا يتبين كذب مَن ادعى هذا الادعاء على ذي النورين -رضي الله عنه-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– البداية والنهاية لابن كثير.
– تاريخ الرسل والملوك للطبري.
– العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
– منهاج السُّنة لابن تيمية.
– التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
– موقع قصة الإسلام، راغب السرجاني، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.