صفحات مِن ذاكرة التاريخ (6) الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- “الأسباب والنتائج”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل المآخذ التي وُجهت إلى أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ونبيِّن الرد عليها، وقد ذكرنا في المقال السابق أن مِن التهم التي وٌجهت إلى أمير المؤمنين عثمان أنه ولَّى معاوية بن أبي سفيان، وولّى عبد الله بن عامر، وولّى مروان بن الحكم، وهؤلاء مِن أقاربه، وهذا المقال تتمة لما ذكرناه في ردنا على هذه التهمة في المقال السابق.
لا شك أن بني أمية كانت مِن أكبر القبائل العربية آنذاك، وكان فيهم الكثير ممن يصلح للحكم والولاية، وكانوا مِن أشراف العرب، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوليهم في كثير مِن الأمور، فنجد أنه في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أن فُتحت مكة ولّى عليها عتَّاب بن أسيد من بني أمية، بينما كان عمره لا يتجاوز العشرين سنة، فولّاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أفضل بقاع الأرض على مكة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى وهو يتحدث عن الطلقاء: “بل ظهر منهم مِن حسن الإسلام وطاعة الله ورسوله، وحب الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وحفظ حدود الله ما دلَّ على حسن إيمانهم الباطن وحسن إسلامهم، ومنهم مَن أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعمله نائبًا له كما استعمل عتاب بن أسيد أميرًا على مكة نائبًا عنه، وكان مِن خيار المسلمين.
وقد استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب -أبا معاوية- على نجران نائبًا له، وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو سفيان عامله على نجران، وكان معاوية أحسن إسلامًا مِن أبيه باتفاق أهل العلم، كما أن أخاه “يزيد بن أبي سفيان” كان أفضل منه ومِن أبيه؛ ولهذا استعمله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على قتال النصارى حين فتح الشام، وكان هو أحد الأمراء الذين استعملهم أبو بكر الصديق” اهـ.
وقال أيضًا في “منهاج السُّنة”: “وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الشِّيعَةَ يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ مَا يَدَّعُونَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَبْلَغَ فِيهِ مِنْ عُثْمَانَ. فَيَقُولُونَ: إِنَّ عُثْمَانَ وَلَّى أَقَارِبَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا وَلَّى أَقَارِبَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَعَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ ابْنَيِ الْعَبَّاسِ. فَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَوَلَّى عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ. وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَقِيلَ: إِنَّهُ وَلَّى عَلَيْهَا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ. وَقِيلَ: ثُمَامَةَ بْنَ الْعَبَّاسِ. وَأَمَّا الْبَصْرَةُ فَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ. وَوَلَّى عَلَى مِصْرَ رَبِيبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي رَبَّاهُ فِي حِجْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامِيَّةَ تَدَّعِي أَنَّ عَلِيًّا نَصَّ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي الْخِلَافَةِ، أَوْ عَلَى وَلَدِهِ، وَوَلَدِهِ عَلَى وَلَدِهِ الْآخَرِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَوْلِيَةُ الْأَقْرَبِينَ مُنْكَرًا، فَتَوْلِيَةُ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى أَعْظَمُ مِنْ إِمَارَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَتَوْلِيَةُ الْأَوْلَادِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْكَارِ مِنْ تَوْلِيَةِ بَنِي الْعَمِّ” اهـ.
وقد ولَّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء، واليمن، وصدقات بني مذحج خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وولّى على تيماء، وخيبر، وقُرى عرينة عثمان بن سعيد بن العاص الأموي، وولّى على البحرين إبان بن سعيد بن العاص، واستعملهم بعد ذلك أيضًا أبو بكر الصديق عمر -رضي الله عنهما-، وزاد عمر -رضي الله عنه- يزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان.
إذن لا يستطيع أحدٌ أن ينكِر منزلة بني أمية في التاريخ، فهم الذين ثبَّتوا دعائم الدولة الإسلامية، ونشروا الإسلام في بقاع كثيرة، ثم نطرح سؤالاً: هل كان معظم ولاة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- مِن أقاربه بالفعل؟!
والإجابة: لا؛ فلقد كانت المناصب العليا في عهد عثمان -رضي الله عنه-، وتحديدًا في الوقت الذي جاء فيه المجرمون المنافقون يطلبون عزله -رضي الله عنه- كانت هذه المناصب على هذا النحو التالي، كان على القضاء زيد بن ثابت الأنصاري، وكان على بيت المال عقبة بن عامر الجهني، وكان على إمارة الحج عبد الله بن عباس الهاشمي، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وسماك الأنصاري، وعلى إمارة الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى الشرطة عبد الله بن قنفذ من بني تيّم.
فهذه المناصب الستة العليا في الدولة لم يكن فيها أحدٌ مِن بني أمية.
أما ولاة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- على البلاد المختلفة، فكانوا على هذا النحو التالي: كان على اليمن: يعلى بن أمية التميمي، وكان على مكة: عبد الله بن عمرو الحضرمي. وعلى همذان: جرير بن عبد الله البجلي. وعلى الطائف: القاسم بن ربيعة الثقفي. وعلى الكوفة: أبو موسى الأشعري. وعلى البصرة: عبد الله بن عامر بن قريظ. وعلى مصر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وعلى الشام: معاوية بن أبي سفيان. وعلى حمص: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي. وعلى قنسرين: حبيب بن مسلمة القرشي الهاشمي. وعلى الأردن: أبو الأعور السلمي. وعلى فلسطين: علقمة بن حكم الكنعاني. وعلى أذربيجان: الأشعث بن قيس الكندي. وعلى حلوان -في أرض فارس-: عتيبة بن النهاس العجلي. وعلى أصفهان في عمق فارس: السائب بن الأقرع الثقفي.
ولا نلحظ في كل هذه الولايات إلا اثنين فقط مِن أقارب عثمان -رضي الله عنهما-: عبد الله بن السائب بن قريظ، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، ثم نقول: إن الولاية أمر يجتهد فيه أمير المؤمنين أو الخليفة حسب ما يرى، وحسب مَن يصلح أن يكون أهلاً للإمارة، سواء أكان قريبًا له، أو غير قريب، بل إن له أن يعزل الفاضل، ويولِّي المفضول إن رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، أو دفع فتنة عنهم، كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما عزل سعد بن أبي وقاص، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وخال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والوحيد الذي افتداه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأبيه وأمه، وولّى بعده مَن هو أقل منه درجة عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ثم زياد بن حنظلة، ثم عمار بن ياسر، ولم ينكر عليه أحد ذلك.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “وَقَدْ وَلَّى عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ قَاتِلَ الْحُسَيْنِ، وَوَلَّى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ” اهـ.
ومِن التهم التي وُجهت إلى أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-: قالوا: أنه ولَّى الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس مِن أهل الولاية.
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: “وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس -على فساد النيات- أسرعوا إلى السيئات قبْل الحسنات، فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به. قال عثمان: ما وليت الوليد؛ لأنه أخي -هو أخوه لأمه أروى بنت كريز-، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوأمة أبيه”.
قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- معلِّقًا على هذه التهمة: “قد يظن مَن لا يعرف صدر هذه الأمة أن أمير المؤمنين عثمان جاء بالوليد بن عقبة مِن عرض الطريق فولاه الكوفة، أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله فيعلمون أن دولة الإسلام الأولى في خلافة أبي بكر تلقفت هذا الشاب الماضي العزيمة الرضيّ الخلق الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل الله إلى أن توفي أبو بكر، وأول عمل له في خلافة أبي بكر أنه كان موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12هـ، ثم وجهه مددًا إلى قائده عياض بن غنم الفهري، وفي سنة 13هـ كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة، فكتب إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار الوليد بن عقبة قائدًا إلى شرق الأردن، ثم رأينا الوليد في سنة 15هـ أميرًا على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا مِن خلفهم، فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ مسلمهم وكافرهم.
وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولايته وقيادته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية، فكان مع جهاده الحربي وعمله الإداري داعيًا إلى الله يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب، وهربت منه إياد إلى الأناضول وهو تحت حكم البيزنطيين، فحمل الوليدُ خليفته عمرَ على كتابة كتاب تهديد إلى قيصر القسطنطينية بأن يردهم إلى حدود الدولة الإسلامية، وحاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في نشره الدعوة الإسلامية بين شبانها وأطفالها، فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان الإسلامي، وقال فيهم كلمته المشهورة:
إذا ما عصبتُ الرأسَ مني بمشوذ فـغيّــكِ مـنـي تـغـلب ابـنــة وائــل
وبلغت هذه الكلمة عمر، فخاف أن يبطش قائده الشاب بنصارى تغلب فيفلت مِن يده زمامهم في الوقت الذي يحاربون فيه مع المسلمين حمية للعروبة، فكف عنهم يد الوليد ونحاه عن منطقتهم، وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان فتولى الكوفة له، وكان مِن خير ولاتها عدلاً ورفقًا وإحسانًا، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة” (انظر تاريخ الطبري).
وبهذا تبيَّن أنها تهمة باطلة كسابقها مِن التهم.
والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– البداية والنهاية لابن كثير.
– تاريخ الرسل والملوك للطبري.
– العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
– منهاج السُّنة لابن تيمية.
– التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
– موقع قصة الإسلام، راغب السرجاني، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.