الالتزام بين الحقيقة والخيال(3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق كيف كان سلفنا يطلبون العلم ويحرصون عليه، ولا يسعدون إلا به، وأنه لن يضيء المصباح إلا بوجود الفتيلة والزيت، وهما نور الإيمان في قلب العبد المؤمن.
وفي ضوء مطالعتنا لبعض الخلل الذي نريد أن نصلحه في الفرد المسلم الملتزم، والارتقاء بالمستوى التعبدي والعلمي والسلوكي للمسلم الملتزم، لا سيما ونحن نعيش حالة من الفوضى في معرفة حقيقة الالتزام، نذكر أن مِن أنواع الخلل: “عدم الاهتمام بأمر الدعوة وتغيير المنكرات والبدع”؛ فنحن نرى بعض البدع التي انتشرت بين عوام المسلمين، من بدع في الطهارة، وفي الأذان، وفي الصلاة، وفي يوم الجمعة، وبدع في المقابر، وهناك أيضًا بعض البدع في المساجد، فإذا جاءنا النص الصريح بأن هذا من البدع فوجب علينا جميعًا أن نُسلِّم الأمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن لا ننكر أن هناك مَن يحاول أن يغير، ويحاول أن يشعل فتيل الإصلاح، لكن هؤلاء قلة في المجتمع.
فإن الله تعالى بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على حين فترة مِن الرسل، في بيئة شركية جاهلية لا تعرف من الحق رسمًا ولا تقيم له وزنًا، بل صاروا على آثار آبائهم، وما استحسنه أسلافهم من الآراء المنحرفة والمذاهب المبتدعة، ثم قام فيهم رسول الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فعارضوه ورموه بأنواع الزور والبهتان، ودعاهم إلى توحيد الله فحاولوا أن يصدوه عن الحق بشتى الطرق والأساليب، فأبى -عليه الصلاة والسلام- إلا الثبات، وأخذ يدعو إلى توحيد الله وحده، وبدأت شرارة الإيمان تُشرق بأنوارها، فآمن به أفراد قلائل على طريق الاختفاء خوفًا من اعتداء الكفار، وهكذا بدأ الإسلام غريبًا.
وكلنا يعلم مدى الشدائد والمحن التي تَعرض لها الرعيل الأول من أهل الإيمان، فلقد أذاقهم الكفار شتى أنواع العذاب، حتى أظهر الله هذا الدين، ونصر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وحزبه، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الإسلام سيعود غريبًا كما بدأ، فعن ابن مسعود وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى للغرباء) (رواه مسلم)، وفي رواية: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: (الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسٍ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فهم قلة قليلة ظاهرون على الحق لا يضرهم مَن خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهكذا، فبعد أن انتشر الإسلام في ربوع المعمورة وأشرقت والأرض بفتوحات الإسلام علي يد الأطهار صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذهبت الغربة الأولى -وهي غربة أهل الإسلام وسط أهل الأديان الأخرى-، فقد بقيت الغربة الأخرى وهي غربة أهل الالتزام بالحق الذين يتمسكون بمنهج رسول الله ويحاربون البدع والضلالات، وخصوصًا وسط هذه التبعية المهينة لأهل الكفر، وهنا يتحقق قول الصادق المصدوق: (لَتَتَّبِعُنَّ سُننَ مَنْ قبلكُمْ شبْرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ) (متفق عليه).
ومِن هنا ينشأ الخلاف، وتقع العداوة والبغضاء بين المتمسكين والخارجين، ويشعر المتمسك بالسُنـَّة بأنه غريب، مع أنه في بلده وفي قومه وأهله، ولكنه يشعر بالغربة وسط هؤلاء المفرطين في سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وخصوصًا إذا تغيرت المفاهيم، وانقلبت الأحوال وصارت البدع عند الناس كأنها سنة، وأنكر الناس على المتمسكين بالسنة، ولاموا عليهم وعنـَّفوهم، وتصبح البدعة هي الأصل، ولا حول ولا قوة لا بالله!
قال الفضيل -رحمه الله-: “الزم طريق الهدي ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين”.
ولكن يأبى الله أن تجتمع الفرق كلها على كثرتها علي مخالفة السُنـَّة، بل لا بد أن تثبت فرقة على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهؤلاء يضاعف الله لهم الأجر الجزيل والثواب العظيم؛ فلا بد لنا أن نتمسك بالسنة ولو خالفنا أكثر الناس، وإذا شعرنا بالغربة؛ فهذا فضل مِن الله علينا أن نكون مِن الغرباء الذين بشَّرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: (فَطُوبَى للغرباء).
فنحن نرى المخالفات والبدع في الأفراح، وفي الجنائز، وفي المساجد، وفي المقابر، وربما في غالب العبادات، وفي المناسبات، والأعياد البدعية الباطلة، فمع تزايد هذه البدع في المجتمع تزداد المسئولية على أهل السنة الغرباء، في تعليم الناس وتبصيرهم، ومحاولة تغيير هذه البدع بالحكمة والموعظة واللين والقول الحسن، وبالحجة والبرهان، فنحن ندعو جميع المسلمين إلي هجر البدع، وندعو أهل الالتزام إلى بذل الجهد في نشر السنة وقمع البدعة.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: “أجمع المسلمون على أنه مَن استبان له سُنَّةً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد من الناس”، وقال: “لا قول لأحد مع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“، وللإمام مالك “إمام دار الهجرة” مِن أقواله المأثورة التي أصبحت نبراسًا لأهل العلم من بعده: “ليس مِن أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-“.
وعن الإمام مالك -رحمه الله- أيضًا:
وخير أمور الدين مـا كـان سنة وشر الأمور المحدثات الـبدائـع
وقال أبو القاسم الجنيد -رحمه الله-: “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا مَن اقتفى أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم-“. وقال: “مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة”، وقال: “مَن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث لا يُقتْدَى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة”.
وقال سهل بن عبد الله -رحمه الله-: “أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله -تعالى-، والاقتداء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام والتوبة، وأداء الحقوق”.
وها هو موقف الأئمة الأعلام إذا خالف قولهم الكتاب والسنة:
1- الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- قال: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”، وقال: “إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله وخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاتركوا قولي”.
2- الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- قال: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فـانظروا في رأيي، فما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”، وقال: “ليس أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-“.
3- الإمام الشافعي -رحمه الله- قال: “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوا ما قلت”، وقال: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”، وقال: “كل حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني”.
4- الإمام أحمد -رحمه الله- قال: “لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ مِن حيث أخذوا”، وقال: “مَن ردَّ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو على شفا هلكة”.
ولذا قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها، وخالف منها ما خالف النص؛ لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم، فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقـًّا مَن امتثل ما أوصوا به لا مَن خالفهم” (الروح لابن القيم -رحمه الله-).
“وعلى الجملة، فكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لم يتركا في سبيل الهداية قولاً لقائل، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد به فيه، وإن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، وكل مطلوب فيما شرع، وما سوى ذلك مما خالفهما فضلال وبهتان، وإفك وخسران، وإن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بكل الخير دنيا وأخرى… وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: لو خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة! قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟ قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟!
إلى غير ذلك مِن الآثار الدالة على أن البدع تغلب على المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا، وقد استفحل أمرها على توالي الأيام إلى اليوم، والسعيد الموفق مَن أحيا السنة ودعا إلى الله، وخالف ما اعتاد الناس وإن ادعوا أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، غير مبال بما يرمونه به من التنطع في العمل والتشدد في الدين، فلا بد أن نصبر ونتواصى بالصبر مع التواصي بالحق، ويروى عن أويس القرني -رحمه الله- أنه قال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقًا، نأمر بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون على ذلك أعوانًا من الفاسقين، حتى والله لقد رموني بالعظائم، وايم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه” (بتصرف من كتاب “الإبداع في مضار الابتداع” للشيخ علي محفوظ، وهو من الكتب التي لا بد للملتزم من مطالعتها).
والموفق السعيد مَن انتظم في سلك مَن أحيا سنة وأمات بدعة، فكن يا أخي أنت ذلك الرجل؛ فقد كثرت البدع وعم ضررها واستطار شررها، ودام الانكباب على العمل بها مع السكوت عن الإنكار لها حتى صارت كأنها سنن مقررة وثابتة! وهنا يتأكد وجوب الإنكار على مَن عنده فيها علم، فالمتعرض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز في العمل حيث قال: “ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره!”.
وكذلك ما عليه الناس اليوم؛ فاغتنم أيها الموفق هذه المنقبة، وكن مع أهلها، فإن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- قال لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في غزوة “خيبر”: (فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) (متفق عليه).
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.