اتفاقية يافا وصفقة تسليم القدس في عصر السلطان الكامل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فلا شك أن التاريخ هو المنتج الثقافي للأمم ، وهو رصيدها الحضاري، وهو عبارة عن تجارب إنسانية تكررت ولا زالت تتكرر كثيرًا في حياتنا وواقعنا، ومن التاريخ نستخلص الدروس والعبر،قال تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (الأعراف:176) وقال {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (111 يوسف).
وقد ذكر لنا التاريخ أن العرب اليبوسيين هم أول من سكن مدينة القدس، وهم بطن من بطون العرب الكنعانيين، وكانوا قبل ذلك يعيشون في شبه الجزيرة العربية، وقد هاجرت هذه القبائل الكنعانية قبل الميلاد بثلاثة آلاف عامٍ تقريباً من شبه الجزيرة العربية الى أرض فلسطين، حيث استوطنوا وأقاموا في بيت المقدس، لذا كان يطلق على أرض فلسطين في وقت من الأوقات (أرض كنعان) نسبة إلى العرب الكنعانيين، وكان يطلق عليها في وقت من الأوقات مدينة (يبوس) نسبة الى اليبوسيين، ثم هاجر إليها خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك عام (1800) ق.م تقريبًا، ثم دخلها بعض الأنبياء عليهم السلام ، فمنهم من أقام بالمدينة، ومنهم من قاتل من أجل تحريرها كداود عليه السلام،ومنهم من ساهم في تشييدها كسليمان عليه السلام، وقد تعرضت المدينة للإحتلال من قبل الرومان الى أن جاء يحيى وعيسى عليهما السلام، واستمر الأمر كذلك حتى البعثة النبوية المباركة، ثم تم انعقاد القمة النبوية بمدينة القدس، وأعني بانعقاد القمة النبوية، اجتماع الرسل والأنبياء في مدينة القدس بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج، يوم أن صلى النبي عليه الصلاة والسلام إماماً باللأنبياء والمرسلين، وكأنه عليه الصلاة والسلام يتسلم منهم المسؤلية لتحمل الأمانة في استرداد بيت المقدس ومدينة القدس، وبعد محاولات كثيرة يقدر الله تعالى أن يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي يتسلم مفاتيح بيت المقدس عام 15 هـ ،وذلك بعد أن حاصرتها جيوش المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، ثم يقدر الله تعالى أن تقع القدس في أسر الصليبين عام (492 هـ ـ 1099 م )، وذلك بعد انهيار العالم الإسلامي وركون كثير من الحُكام والمحكومين إلى الدنيا، حيث ابتعد المسلمون عن طريق عزهم وعزتهم، وقد رفع الصليبيون الصليب على المسجد، ومنعوا صلاة الجماعة أكثر من تسعين سنة، ثم بدأت الأمة تعود إلى خالقها وتتمسك بدينها فأكرم الله الأمة بمجموعة من العظماء المجاهدين كعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم، فتم القضاء على الدولة العبيدية الشيعية، وتوحدت ىمصر والشام تحت راية واحدة، ويدخل صلاح الدين مدينة القدس بعد رحلة طويلة من الجهاد والكفاح، وينتصر على الصليبيين في معركة حطين عام 583هـ / 1187م ، ويسترد مدينة القدس والمسجد الأقصى مرة أخرى، ومن المؤرخين من ذكر أن تحرير القدس ودخول صلاح الدين المسجد الأقصى كان في السابع والعشرين من شهر رجب ، أي ليلة ذكرى الإسراء والمعراج، أي في مثل اليوم الذي اجتمع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ، على قول من يقول أن الإسراء والمعراج كان في السابع والعشرين من شهر رجب.
ولذا فنحن جميعًا نفخر ونتفاخر بعمر بن الخطاب الذي فتح مدينة القدس وبصلاح الدين الأيوبي الذي حررها من الصليبيين،
صفقة تسليم مدينة القدس
لقد ظل المسلمون يسيطرون على مدينة القدس منذ أن حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، حتى كان عصر السلطان الكامل محمد بن العادل الأيوبي سلطان مصر. وقد ولد السلطان الكامل عام 576هـ، وهو خامس سلاطين بني أيوب، وقد كان والده العادل أصغر من أخيه صلاح الدين بعامين.
وعلى الرغم من فضائل ومآثر السلطان الكامل التي ذكرها المؤرخون والعلماء، إلا أنه تعامل مع القدس و كأنها جوهرة ثمينة يهديها للأعداء حفاظًا على كرسيه وسلطانه، ولم يتعامل معها كمدينة مقدسة لها قدرها وقدسيتها، فلقد عرض على الصليبيين أن يسلمهم مدينة القدس وذلك أثناء حصارهم لمدينة دمياط عام ( 616هـ/ 1219م) وذلك مقابل الجلاء عن مصر، وهذه الحملة هي ما تعرف بالحملة الصليبية الخامسة على مصر،فلقد وصلت الحملة إلى دمياط في شهر صفر عام 615هـ، وقامت بحصار مدينة دمياط، وهنا تحرك السلطان الكامل بنفسه على رأس حملة عسكرية، وعسكر في قرية العادلية، وهي قرية تقع على ضفة النيل الشرقية بين دمياط وفارسكور، وقد وقعت عدة معارك بين الطرفين، ولم يستطع المسلمون فك الحصار عن دمياط، وذلك بسبب كثرة الإمدادات الصليبية التي لا تنقطع من أوروبا، وفي النهاية استسلمت المدينة وسيطر عليها الصليبيون، بعد ستة عشر شهرًا من الحصار، وقد بكى السلطان الكامل بكاءً شديدًا على ضياع دمياط.
ثم فكر الصليبيون أن يتوغلوا داخل الديار والمدن المصرية، وهنا عرض السلطان الكامل على الصليبيين أن يسلمهم مدينة القدس وطبرية وعسقلان وصَيْدَا واللاذقية وجَبَلَة، مقابل الجلاء عن دمياط، وقد قدر الله تعالى أن يرفض الصليبييون هذا العرض حيث أنهم كانوا يطمعون في الاستيلاء على مصر، ثم تمكَّن المصريُّون بفضل الله تعالى من الانتصار عليهم وطردهم من دمياط، في شهر رجب عام 618هـ، ثم دخل السلطان الكامل دمياط بعد ثلاث سنوات تقريبًا قضاها الصليبيون بمنطقة دمياط، وقد تعاون أبناء السلطان الملك العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى، أثناء هذه الحملة مما كان له أثر بالغ في انتصار المسلمين على الحملة الصليبية.
ثم بسبب الصراع على الكراسي والمناصب شبَّ صراعٌ بين الكامل وأخيه السلطان المعظَّم عيسى صاحب دمشق، واستعان كلٌّ من الأخوين بقوى خارجيَّة لمؤازرته ومساندته في مواجهة الآخر؛ فاستنجد الملك المعظم بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوربَّا، وللأسف الشديد كان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه الجوهرة الثمينة (بيت المقدس وجميع المدن التي فتحها صلاح الدين بالساحل الشامي)، كل ذلك من أجل مساعدته في حربه ضدَّ أخيه الملك المعظم، ويا له من ثمنٍ غالٍ في مقابل كرسي زائل وثمن بخس، وقد وافق عرض السلطان الكامل أن فريدريك كان يحاول أن يحسن من مكانته في أوروبا بين الملوك والأمراء والبابوية، وكانوا يضغطون عليه من أجل القيام بحملة جديدة بعد فشل الحملة الخامسة.
ثم قدر الله تعالى أن مات الملك المعظَّم عيسى ، وبهذا زال سبب الصراع بين الأخوين، وعندما وصل الإمبراطور فريدريك إلى عكا عام 625هـ، لمساندة الكامل، علم بوفاة الملك المعظَّم عيسى الذي كان يعمل على التوسُّع على حساب إخوته، وقد انتهى الصراع بين الأخوين بوفاة أحدهما، وقد اقتسم الأخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظَّم عيسى ، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار، فأرسل فريدريك وفدًا محملاً بالهدايا النفيسة إلى السلطان الكامل، وقد طلب الوفد من الكامل الوفاء بما تعهَّد به للإمبراطور، وتسليم بيت المقدس له، وهنا رفض السلطان الكامل هذا الطلب حيث تغيرت الأحوال بوفاة المعظم عيسى، وهنا لجأ الإمبراطور إلى أسلوب التذلل والإنكسار والخضوع والإستعطاف، حيث خاطب فريدريك الكامل بكلمات احتوت على التعظيم، حتى قيل إنه كان يناديه بيا سيدي، ويقول له أنا عتيقك ومملوكك، بل وتشير بعض الروايات إلى إنه قد بكى أثناء المفاوضات، وهنا تحير السلطان الكامل في بداية الأمر، ولكن أثرت تلك الكلمات المزيفة في السلطان الكامل وألهبت مشاعره، ورق قلبه لها، وقد نجح الإمبراطور في خداعه، واتَّفق الفريقان على عقد اتفاقيَّة يافا في ربيع الأول (626هـ / 1229م)، وبمقتضاها تقرَّر الصلح بين الطرفين لمدَّة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيُّون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا وبيروت ويافا والرملة وعسقلان وتِبنِين وهُونين، ونصَّت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدِّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمُّه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، تُقام فيه الشعائر والصلوات، ولا يدخله الصليبيُّون إلَّا للزيارة فقط، وبعد عقد الصلح توجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدَّسة في (19 ربيع الآخر 626هـ /17 من مارس 1229م)، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوَّج ملكًا على بيت المقدس، ويصف المقريزي ما حلَّ بالمسلمين من ألمٍ وغم بقوله: “فاشتدَّ البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمَّة والمؤذِّنون من القدس إلى مخيَّم الكامل، وأذَّنوا على بابه في غير وقت الأذان واشتدَّ الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار” وهكذا سيطر الصليبيُّون على بيت المقدس بلا حرب ولا سلاح، وقد ذكر صاحب كتاب مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ما نصه ” ورأى الملك الكامل أنه إن شاقق الإمبراطور ولم يف له بالكلية أن يفتح له باب محاربة مع الفرنج، ويتسع الخرق ويفوت عليه كلما خرج بسببه، فرأى أن يرضي الفرنج بمدينة القدس خرابًا ويهادنهم مدة، ثم هو قادر على انتزاع ذلك منهم متى شاء” وظلَّ بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو خمسة عشر عامًا يشكو إلى الله ظلم الحُكَّام وخيانتهم، حتى نجح الخوارزميُّون في تحريره في عهد السلطان المجاهد الملك الصالح نجم الدين أيوب في شهر صفر (642هـ/ 1244م)، وهكذا كان السلطان الكامل كلما أحس بالخطر يساوم ببيت المقدس.
وبعد وقوع هذا الصلح انقسم الصليبيون إلى ثلاثة أقسام، قسم رفض ما حدث وقال: إن كرامة المسيح كانت تحتم أن تؤخذ مدينة القدس بحد السيف وليس بالبكاء والاستجداء، وقسم قال إن صداقة الأمراء العرب وفرت كثيرًا من إراقة الدماء المسيحية، وقسم قال لا قيمة للصلح دون الشَّوْبَك و الْكَرْكِ ( وهما من القلاع الحصينة في الأردن) ولهذا السبب رفضوا عرض الكامل في الحملة الخامسة، لأنهم كانوا يريدون إحياء مملكة بيت المقدس بما فيها أراضيها بالأردن.
ولمثل هذا الحادث تسكب العبرات وتمزق القلوب من الزفرات والحسرات.
وهكذا التاريخ يتكرر في واقعنا.([1])،
([1])ابن الأثير: الكامل في التاريخ، – المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك،- مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ، محمَّد بن سالم بن نصرالله- التاريخ المنصوري، محمد بن علي بن نظيف الحموي– سعيد عبد الفتاح عاشور: الحركة الصليبية، – قاسم عبده قاسم: الحروب الصليبية، سلسلة عالم المعرفة، إبراهيم ياسين الخطيب: القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل الأيوبي.