مقالات تاريخية

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (47) ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81هـ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق سبب ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وأهل العراق، وما حدث في معركة الزاوية، ونستعرض في هذا المقال أحداث معركة دير الجماجم -تقع دير الجماجم على سبعة فراسخ مِن الكوفة مِن طريق البصرة-.

معركة دير الجماجم:

لما رأى أهل الشام وبنو أمية قوة ابن الأشعث أشاروا على عبد الملك بعزل الحجّاج وقالوا: “إن كان إنما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فانزعه عنهم، تخلص لك طاعتهم”، فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان بالجيش إلى العراق وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم، وأن يجري عليهم العطاء، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلدٍ شاء مِن العراق ويكون واليًا، فإن قبلوا ذلك نزعنا عنهم الحجّاج ويكون محمد بن مروان مكانه على العراق، وإن أبوا فالحجّاج أمير الجميع وولي القتال (تاريخ الرسل والملوك 7/ 245).

ولم يكن أمر أشق على الحجّاج ولا أغيظ له، ولا أوجع لقلبه مِن هذا الأمر، فلقد أحزنه وعزّ عليه أن يضحي به عبد الملك بن مروان بعد كل ما قدَّمه له مِن خدماتٍ (العالم الإسلامي في العصر الأموي، لعبد الشافي محمد عبد اللطيف)، وكتب إليه يذكره بما حدث مِن أهل العراق مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، قال له: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلًا حتى يخالفونك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، وأخذ يعدد له بعض مواقف أهل العراق.  

ومما قاله له: “إن الحديد بالحديد يفلح، كان الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك”، فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، وبالفعل عرض عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان الأمر على أهل العراق، فقالوا: ننظر في أمرنا غدًا، ونرد عليكم الخبر عشية ثم انصرفوا، فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث فقام فيهم خطيبًا وندبهم إلى قبول ما عُرض عليهم مِن عزل الحجاج عنهم، وبيعة عبد الملك وإبقاء الأعطيات، وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج، ومما قاله لهم: “فقد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة”، فنفر الناس مِن كل جانب وقالوا: “لا والله لا نقبل ذلك، نحن أكثر عددًا، وهم في ضيقٍ مِن الحال وقد حكمنا عليهم وذلوا لنا، والله لا نجيب إلى ذلك أبدًا!”، ثم جددوا خلع عبد الملك.

وكان الأولى بابن الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير، فقد ضاعت فرصة كبيرة في التخلص مِن الحجّاج، وكان يمكنهم رفع سقف المطالب والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة العدل، والتقيد بالكتاب والسُّنة، ولكن يبدو أن بعض القواعد الشرعية كانت غائبة عن كثيرٍ منهم، فلم يفكروا في مآلات الأمور ولم يحسنوا الترجيح بيْن المصالح والمفاسد، لقد كان مِن الأولى أن يحافظ هؤلاء على وحدة الأمة، وعلى دماء المسلمين، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، إذن فلابد مِن مراعاة قاعدة: “تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما”، وقاعدة: “ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما”، وقاعدة: “اعتبار المآلات”، لكن مِن الواضح أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظاتٍ سيطرت فيها العاطفة الثورية ولم تكن نتيجة معرفة تامة بالواقع وموازين القوى الحقيقية.

وهنا يُلاحظ: أن الحماس الممزوج بالعاطفة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة، فلقد توحد هؤلاء وتجمعوا يرفعون بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع ومآلات الأمور وعواقبها!

ولا شك أن حلم التغيير يراود كثيرًا مِن المخلصين العاملين لدين الله -عز وجل-، ويتمنى هؤلاء تغيير الواقع المملوء بالظلم وانتشار المنكرات، ويتمنون لو أنهم حكموا شرع الله -عز وجل- في كل شؤون الحياة، ولكن يتحتم على الجميع أن يكونوا على درايةٍ كافيةٍ بمنهج التغيير الصحيح الموافق للضوابط الشرعية والقواعد التي ذكرناها آنفًا، ثم يتحتم على الحركات الإصلاحية أن تقوم بدراسةٍ عميقةٍ للتاريخ الإسلامي وما حوته صفحات التاريخ مِن أحداثٍ وثوراتٍ نجح بعضها وفشل البعض الآخر؛ فلابد مِن تحليل الأحداث التاريخية ودراسة أسباب النجاح والفشل، فلقد كانت هذه الثورة في وقتٍ مِن الأوقات هي أقوى، بل وأنجح الثورات في التاريخ الأموي، وكان بإمكان أصحابها أن يقوموا بتغيير الواقع الذي يعيشونه إلى واقعٍ أفضلٍ بكثير، ولكن في لحظةٍ معينةٍ أخطأ الثوار وأخطأ أيضًا قائدهم، فكانت النتيجة أن سلم محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج، وقالا: “شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع” (تاريخ الرسل والملوك 7/ 246).

وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء مِن أهل المصرين لقتال الحَجاج، وجاءت الحجاج أيضًا أمداده مِن قِبَل عبد الملك وخندق كل مِن الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقًا يمتنع به مِن الوصول إليهم، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون قتالًا شديدًا في كل حين، واشتد القتال بيْن الفريقين واستمر القتال لعدة أشهر حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع مِن جمادى الآخرة سنة 83هـ (تاريخ الرسل والملوك 7/ 254).

ثم دارت معركة أخرى بعدها في مسكن في شعبان مِن نفس السنة، فهزم ابن الأشعث أيضًا، ثم ولى هاربًا إلى رتبيل في سجستان، ولكن الحجّاج هدد رتبيل إن لم يسلم إليه ابن الأشعث ليغزون بلاده بألف ألف مقاتل، فرضخ للتهديد وعزم على تسليمه إليه، فلما أحسَ ابن الأشعث بغدر رتبيل ألقى بنفسه مِن فوق القصر الذي كان فيه، فمات فأخذ رأسه وأرسلها إلى الحجّاج وكان ذلك سنة 85هـ. وقيل: إن رتبيل أرسله مقيدًا إلى الحجاج فلما قرب ابن الأشعث مِن العراق، ألقى نفسه مِن قصر خراب أنزلوه فوقه فهلك. وقيل: إنه أٌصيب بمرض السٌل حتى مات فأرسل رتبيل رأسه إلى الحجاج، وهكذا انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة ضد عبد الملك بن مروان، أريقت فيها دماء عشرات الألوف مِن المسلمين (سير أعلام النبلاء).

زر الذهاب إلى الأعلى