صفحات مِن ذاكرة التاريخ (37) قراءة حول الملك والخلافة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه نبذة مختصرة نريد أن نلقي الضوء مِن خلالها على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لا سيما فتنة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، ورفضه بيعة يزيد، ومِن ثَمَّ رفضه لخلافته.
فهناك عدة مسائل نلخصها في عدة نقاط لتخرج القراءة بصورةٍ بنائية متكاملة.
أولًا: شروط يجب توافرها في الإمام أو الخليفة:
ذكر أهل العلم شروطًا معينة يجب توافرها في الخليفة ليصلح لتولي أمر الأمة، ومنها: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والعلم، والعدالة، والقرشية، وغير ذلك مِن الشروط، لكننا نريد أن نسلِّط الضوء على شرطي العلم والعدالة؛ فلابد أن يكون الخليفة عدلًا أمينًا، والعدالة هي عبارة عن الالتزام بالفرائض والفضائل، وتجنب الفواحش والرذائل.
وقد ذكر أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن أن في قوله -تعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، إجابة لسؤاله أن يجعل مِن ذريته أئمة، وتعريفًا له بذلك، وبأن الظالمين منهم لا يكونون أئمة.
ثم قال: “فلا يجوز أن يكون الظالم نبيٍّا ولا خليفة لنبي ولا قاضيًا، ولا مَن يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين مِن مفتٍ أو شاهد أو مخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرًا، فقد أفادت الآية أن شرط جميع مَن كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح” (انتهى).
وذكر القاضي البيضاوي أن الجملة تفيد إجابة إبراهيم إلى ملتمسه، وأن الظالمين مِن ذريته لا ينالون الإمامة؛ لأنها أمانة مِن الله وعهد، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة.
والمراد: أن إمامة غير العدل لا تصح؛ فلا يكون إمامًا شرعيٍّا، لا أنها لا تقع، وقد نقل الجصاص وغيره عن ابن عباس -رضي لله عنهما- أنه قال: لا يلزم الوفاء بعهد الظالم، فإن عقد عليك في ظلم فانقضه، هذا بالنسبة لشرط العدالة، علمًا بأن يزيد كانت تلاحقه الإشاعات التي تقدح في عدالته.
وقد كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يقول بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه-: “أما والله، ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر -الركض في طلب الصيد- يعرّض بيزيد -فسوف يلقون غيًّا” (أنساب الأشراف للبلاذري)، ثم يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر، ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة وما جاء فيها مِن الآثار للأرزقي).
وقد كان بعض الناس في المدينة أيضًا يذكرون هذا الكلام، ولعل هذه الاتهامات التي تقدح في العدالة كانت مِن الأسباب التي جعلت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يرفض بيعة يزيد بالإضافة إلى السبب الرئيسي، وهو طريقة ترشيح يزيد وتوليه الخلافة.
وأما بالنسبة لشرط العلم، فيعنون به العلم بأمور الدين ومصالح الأمة وسياستها.
ومِن الآثار في ذلك: سيرة عمر -رضي الله عنه- في أمرائه الذين كان يؤمِّرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع فيها؛ فلأجل ذلك أَمَّرَ معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاصم مع وجود مَن هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم: كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة.
جاء في الموسوعة الفقهية في بيان المقصد الأساس للدولة: “هُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: الإْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَالإْمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ. وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلاَيَاتِ إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. وَيَقُول ابْنُ الأْزْرَقِ: إِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الإْمَامِ رَاجِعَةٌ إِلَى النِّيَابَةِ عَنِ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ، وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً وَذَلِكَ لأِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إِيجَادِ الْخَلْقِ لاَ الدُّنْيَا فَقَطْ” (انتهى).
إذن فلا بد مِن وجود العلم للحفاظ على أمري الدين والدنيا؛ لأن جهل الخليفة أو الإمام سيعود بلا شك بالضرر البالغ على العباد والبلاد، وأما مَن كان مستجمعًا لأكثر الشروط ولم يجمعها كلها؛ فيجوز مبايعته، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها.
ومثال ذلك: مَن تغلب وهو جاهل، يفقد شرط العلم مثلًا، وكان صرفه ومنابذته فتنة وفساد؛ حكمنا بانعقاد إمامته حفاظًا على وحدة الكلمة، وكيان الأمة؛ فلقد قُتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وقد كان أميرًا للمؤمنين، ودخلت في طاعته ومبايعته: “الكوفة، والبصرة، ومصر، وخراسان، والشام -معقل الأمويين-“، ولم يبقَ سوى الأردن في عهد عبد الملك بن مروان، وقد قتله الحجاج؛ فماذا كان موقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؟!
عن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: “يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي”، فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) (الأنفال:39)، فَقَالَ: “قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ” (رواه البخاري).
وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: “لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَصَلَبَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ يُغَايِظُ بِهِ قُرَيْشَ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: “السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَاللَّهِ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، ثَلاثًا، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ” (رواه مسلم).
بل كان -رضي الله عنه- يصلي خلف الحجاج، بل وحج معه، وبايع عبد الملك بن مروان، ولم يخرج على الحاكم أو يأمر بالخروج عليه؛ لأنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال؛ لما في ذلك مِن سفك الدماء، وإضعاف لوحدة الجماعة المسلمة، فلما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: “أما بعد, فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت, وإن بنيّ قد أقروا بذلك” (الطبقات لابن سعد).
فالعلة ليست في ثبوت الولاية الشرعية مِن عدمها، ولكن العلة هي سفك الدماء، علمًا بأننا لا نثبت الولاية الشرعية في النظام الجمهوري الحديث؛ فانتبه، ولقد قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية على يد أبي العباس السفاح الذي قضى على الدولة الأموية، وقتل عشرات الآلاف مِن المسلمين.
وهنا سؤال: ماذا فعل العلماء في عصره؟!
لقد بايعوه ولم يأمروا بقتاله؛ نظرًا لعدم القدرة على ذلك، وللمفاسد المحتملة، بل وربما المفاسد المحققة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرح العقيدة السفارينية: “(وشرطه): أي شرط الإمام الذي يكون خليفة على المسلمين -وعدد شروطًا-… ومنها: (الإسلام): وهذا لابد منه، فلا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسم أبدًا، بل لابد أن يكون مسلمًا؛ فلو استولى عليهم كافر بالقهر، وعندهم فيه مِن الله برهان أنه كافر؛ بأن يعلن أنه يهودي أو نصراني مثلاً، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح، وعليهم أن ينابذوه، ولكن لابد مِن شرط مهم وهو القدرة على إزالته، فإن كان لا تمكن إزالته إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى؛ فليصبروا حتى يفتح الله لهم بابًا؛ لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع، وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها… ثم قال: ولابد أن يكون على دراية ومعرفة بالسياسة، ومعرفة بالأحوال حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة، وتقتضيه المصالح”.
وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.