مقالات تاريخية

الأسس التي قامت عليها الدولة الإسلامية في المدينة

الأسس التي قامت عليها الدولة الإسلامية في المدينة

قَدِمَ النبي ﷺ المدينة وقد سادت الروح القَبَلية بين أهلها، وتأصَّلت فيهم، بما كان بينهم من الخصومات، والحروب السابقة، والتي زادت من صلابة العصبية القبلية، ولم تكن مساكن أهل المدينة متقاربة متماسكة، بل كانت تتكون من عدة تجمعات سكنية، يسكن كل تجمع منها عشيرة أو عدة عشائر، ولم تكن العلاقة بين هذه العشائر طيبة بطبيعة الحال، بل كانت متناحرة، متنافرة، كذلك كانت الاتجاهات الدينية متنوعة([1]) بين المسلمين (المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم)، والْمشركين (عباد الأوثان)، واليهود (بقبائلهم المعروفة: بني قينقاع، بني النضير، بني قريظة)، فبدأ ﷺ بالتخطيط للمجتمع الوليد الذي ينبغي أن يقوم على مبادئ الدين الجديد، وكان أول ما واجه قضية استيعاب وإقامة المهاجرين رضي الله عنهم في مجتمع المدينة، فاختار بعض الأراضي المهملة التي ليست لأحد، ووهب له الأنصار رضي الله عنهم بعض أراضيهم([2])، فأعطى كل ذلك للمهاجرين رضي الله عنهم لبناء بيوتهم، وخطَّ الدور بالمدينة، (فخَطَّ لبني زُهـــــرة في ناحـــــية مؤخـــــر المسجـــــد، وأَقطـــــع للزبير بن العوام رضي الله عنه بَقيعاً واسعاً، وجعل لطلحة رضي الله عنه موضع داره، ولآل أبي بكر رضي الله عنه موضع دارهــــم عنــــد المســــجد، وخــــط لعثمان رضي الله عنه موضع داره كذلك)([3]).

وكان هناك قوم فقراء، لم يجدوا أماكن ينزلون فيها، فأنزلهم النبي ﷺ مؤخّرة مسجد المدينة (الـصُّـفَّـة)، فَسُمُّوا (أهل الصُّفَّة)([4])، كان منهم واثلة بن الأسقع، نبيط بن شريط، طلحة بن عمرو الليثي، وغيرهم ثم لحق بهم أبو هريرة، والذي كان عريفــــهم (رئيســــهم) رضي الله عنهم، فكان النبي ﷺ إذا أراد دعوتهم أرسل إليه، فدعاهم، لمعرفته بهم، وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة، قال واثلة رضي الله عنه: (كنتُ من أصحاب الصُّفَّة، وما من إنسان يجد ثوباً تاماً، قد جعل الغبار والعرق في جلودنا طَرْقاً)([5]).

وكانوا يكثرون ويقلون بحسب من يتزوج منهم، أو يموت، أو يسافر، وكانوا قرابة المائة رضي الله عنهم، وكان النبي ﷺ يتعهدهم ويشرف عليهم([6]).

ولم يضيع النبي ﷺ وقتاً طويلاً، بل بدأ على الفور في وضع لبنات الكيان الجديد، والدولة الوليدة.

وكانت الخطوة التنظيمية الأولى في مجتمع المدينة بناء المسجد، والذي لم يكن مجرد مركز للعبادة من صلاة وذكر وغير ذلك، بل كان أول مركز للإدارة في الإسلام:

  1. ففيه كان النبي ﷺ يتدارس مع أصحابه رضي الله عنهم الأمور الطارئة، ويتخذ القرارات العاجلة([7]).

  2. وكان مركزاً للشورى، وداراً لجماعة المسلمين، تبحث فيه شؤونها([8]).

  3. وكان بمثابة دار للقضاء، ومكان لفض المنازعات بما أنزل الله عز وجل([9]).

  4. وكان مركزاً للإنعاش الاقتصادي، فقد أمر ﷺ أن يُنشر المال الذي جاء من البحرين في المسجد([10]).

  5. ومنه كانت تنطلق الجيوش إلى وجهتها.

  6. وفيه كانت تُستقبَل الوفود([11]).

  7. ومنه كان ينطلق الرسل والسفراء إلى الملوك والرؤساء([12]).

  8. وكان النظام يُميز أماكن الجلوس والاجتماع في المسجد، فقد كان النبي ﷺ يتخذ مجلسه عند أسطوانة (عمود) تسمىٰ (أسطوانة التوبة)، وكان المهاجرون رضي الله عنهم يجلسون عند (أسطوانة القُرْعة)، حيث كان ﷺ يجتمع معهم ويشاورهم، وكان هناك (أسطوانة الوفود)، والتي كان النبي ﷺ يلتقي عندها وفود القبائل والسفراء والمبعوثين([13]).

يقول المباركفوري رحمه الله: (لم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الانطلاقات، وبرلماناً لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية، وكان مع هذا كله داراً يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون)([14]).

وباختصار شديد (ففي هذا المسجد اتخذت أعظم القرارات التي غيَّرت وجه التاريخ، وبدلت مصائر العالم، ومنه خرجت شعلة النور التي أضاءت جنبات الأرض، فلا غرو إذن إذا اعتبر بناء مسجد المدينة من أهم ركائز الدولة الإسلامية)([15]).

وهذا الدور المهم للمسجد، قدَّم النبي ﷺ بناءه على غيره من الخطوات الإدارية والتنظيمية، ومن خلال الروح الجماعية للصلاة فيه استطاع الإسلام أن يصل إلى درجة كبيرة من تفتيت روح العصبية القبلية، وأن يربط الناس بالمبادئ الجديدة وفق أحكام تقوم على روابط العقيدة والتوحيد والأخوة الإيمانية، وليست روابط القرابة والدم([16]).

([1]) السمهودي:  وفاء الوفا بأخبار المصطفىٰ ﷺ، تحقي: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 1374ه/1955م، ج1 ص156-162.
([2]) البلاذري: جمل من أنساب الأشراف، تحقيق: سهيل زكار، رياض زركلي، دار الفكر، بيروت، ط1 1417ه/1996م، ج1 ص317 & السمهودي: المصدر السابق، ج1 ص718.
([3]) السمهودي:  المصدر نفسه.
([4]) ابن سعد: الطبقات الكبرىٰ، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 1410ه/1990م، ج1 ص196.
([5]) البلاذري: جمل من أنساب الأشراف، ج1 ص320.
([6]) السمهودي: وفاء الوفا، ج1 ص454.
([7]) القطب محمد طبلية: نظام الإدارة في الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1 1398ه/1978م، ص72.
([8]) وقعت استشارة المسلمين في أُحد والخندق في المسجد. ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: جمال ثابت وآخرون، دار الحديث، القاهرة، ط2 1419ه/1998م، ج3 ص185، ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق: محي الدين مستو، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1436ه/2015م، ج4 ص177.
([9]) البخاري: صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب: القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء، دار الحديث، القاهرة، ط1 1420ه/2000م، ج1 ص216 حديث رقم 423.
([10]) البخاري: المصدر السابق، باب: القسمة وتعليق القنو في المسجد، ج1 ص216 حديث رقم 421.
([11]) ابن هشام: السيرة النبوية، ج4 ص185.
([12]) محمد كرد علي: الإدارة الإسلامية في عز العرب، مطبعة مصر، القاهرة، ط1 1352ه/1934م، ص45، 46
([13]) السمهودي: وفاء الوفا، ج1 ص439-453.
([14]) صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، ط4 1422ه/2001م، ص206.
([15]) عبد الشافي محمد عبد اللطيف: بحوث في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، دار السلام، القاهرة، ط2 1429ه/2008م، ص167.
([16]) فرج محمد الهوني: النظم الإدارية والمالية في الدولة العربية الإسلامية، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة، ط2 1398ه/1978م، ص24، 25.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى