مقالات متنوعة

محنة الإمام ابن الجوزي مع ابنه

لَفْتَةُ الكِبْدِ إلى نصيحَةِ الوِلْدِ

بقلم د. زين العابدين كامل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

فلا شك أن الله تعالى يمتحن عباده ويبتليهم في الدنيا وهو أعلم بأحوالهم ، وفي ذلك البلاء رفعة لهم ، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى ” ( أخرجه أبو داود وصححه الألباني )، وفي الحديث أيضًا ( أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.) ( أخرجه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني).

لذلك فإن المتتبع لسير العلماء والصالحين ، يرى أنهم مروا خلال حياتهم بكثير من المحن وأنواع البلاء المختلفة، حتى إن بعض العلماء قديمًا قد ألفوا كُتبًا تجمع أنواع المحن التي مر بها السلف من الصحابة والعلماء والصالحين، ومن هؤلاء الإمام: محمد بن أحمد بن تميم التميمي المغربي الإفريقي، أبو العرب (المتوفى: 333هـ ) فقد ألف كتاب المحن، وقد بدأ فيه بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ثم ذكر كثيرًا من أحوال العلماء والصالحين وما مروا به من محن وبلاء، وكذا فعل بعض المعاصرين أيضًا.


ونريد في هذا المقال أن نسلط الضوء على محنة مر بها مفخرة العراق، وواعظ الآفاق، الإمام ابن الجوزي رحمه الله، وهو من علماء القرن السادس الهجري، ولقد برز ابن الجوزي رحمه الله، في علوم التفسير والحديث والتاريخ والوعظ وغير ذلك،  ولقد مر ابن الجوزي بمحنة شديدة في حياته، وذلك بعدما ذاع صيته في العراق، فلقد استطاع ابن الجوزي أن يستقطب الناس إلى مجالس وعظه، فكان يحضر مجالسه عشرات الآلاف من الكبار والصغار، والرجال والنساء، بل كان يحضرها الخليفة العباسي نفسه، والسلطان السلجوقي، والوزراء والأمراء، ويقول ابن الجوزي عن نفسه في كتابه – صيد الخاطر – “ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل”، وقد ظل ابن الجوزي على مكانته وعلو منزلته هذه  حتى تولى الخلافة الناصر لدين الله العباسي سنة 575هـ، و كان أول وآخر خليفة عباسي يتشيع، ويتظاهر بذلك، ويجهر به، وقد عمل على تقريب الشيعة، وولاهم كثيرًا من المناصب في الدولة، ومع تسلط الشيعة يمر ابن الجوزي بمحنة كبيرة عام 590 هـ ، فقد تم نفيه وسجنه بمدينة واسط، وتم منعه من الوعظ وتعرض لكثير من الإهانات، وظل ابن الجوزي رحمه الله  في محنته بين النفي والسجن والإهانة خمس سنوات كاملة،  وكانت هذه المحنة  في أواخر عمره، بعد أن جاوز الثمانين من العمر، وفي سنة 595هـ أذن له الله عز وجل في رفع المحنة عن الإمام وذلك بشفاعة أم الخليفة الناصر العباسي، ثم عاد ابن الجوزي من منفاه إلى بغداد، وأُذن له في الوعظ كما كان،وهذه هي المحنة المشهورة عن ابن الجوزي رحمه الله ، وهي التي يتناولها أهل السير ويٌضرب بها المثل في محن العلماء.

ولكن ابن الجوزي قد مر بمحنة أخرى في حياته أثناء محنته الأولى، وهي من وجهة نظري أشد من محنته الأولى المشهورة، والمحنة التي أعنيها هي محنته مع ابنه، فلقد رزق الله ابن الجوزي من الذكور ثلاثة، وهم : أبو بكر عبد العزيز وهو أكبر أولاده، وقد تفقه عبد العزيز على مذهب الإمام أحمد، وكان من الوعاظ الذين مارسوا العمل الدعوي بمدينة الموصل، وأما الإبن الثاني فهو: أبو القاسم بدر الدين علي، وهذا الإبن هو سبب المحنة التي نتحدث عنها كما سنوضح، وأما الإبن الثالث فهو: أبو محمد يوسف محي الدين، وهو أصغرهم وأنجبهم، وقد برز يوسف في الناحية العلمية، وذاع صيته وعظمت شهرته وعلت مكانته عند الخلفاء والأمراء، وقد قتله هولاكو عام 656هـ .


 ثم نعود إلى ابنه الأوسط بدر الدين علي والذي تسبب في المحنة الثانية ، فلقد نشأ بدر الدين في بداية حياته طيبًا حسنًا، ثم تحول أمره بعد ذلك حتى مال إلى اللهو والخلاعة وصاحب أهل الشر والفساد ،  ثم كان من أمره أنه  تآمر مع الركن عبد السلام في مؤامرته ضد ابن الجوزي، والتي تسببت في نفي ابن الجوزي وسجنه، ثم قام بدر الدين بجناية عظيمة، وهي أنه تسلط على تراث أبيه العلمي، ونتاجه الفكري الذي ألفه أبوه، وكانت مئات المجلدات في شتي العلوم و الفنون، وباعها بالأحمال، وشرب بثمنها الخمر، وتجاهر بذلك الفحش، والأب يعاني في غربته ووحدته مرارة ذلك الجحود والنكران من الإبن العاصي، وكم أثر هذا الفعل الشنيع في ابن الجوزي رحمه الله، حتى ذكر الذهبي عن ابن النجار قال سمعت ابن الجوزي يقول عن ولده بدر الدين: “إني لأدعو عليه كل ليلة وقت السحر “،  فهذا هو ولده الذي رباه، هذا هو فلذة كبده، يتواطىء مع الخونة ضد أبيه، ثم يقضي على عصارة الفكر الذي كتبه أبوه، وقد كتب ابن الجوزي بدمع عينيه رسالة إلى ولده هذا، وهي عبارة عن نصيحة من الوالد لولده، وتُعد تلك الرسالة، من روائع النصائح والوصايا التي يجب علينا أن نتدبرها وأن نتعلم منها، وقد جاءت النصيحة بعنوان (لَفْتَةُ الكِبْدِ إلى نصيحَةِ الوِلْدِ)  حاول ابن الجوزي في وصيته هذه أن يرشد ابنه إلى الطريق الصحيح، وأن يدله على الصراط المستقيم ، وأن يبصره بحقيقة الدنيا ولماذا خلقنا الله فيها، وقد جمع ابن الجوزي في رسالتة: ( لَفْتَةُ الكِبْدِ إلى نصيحَةِ الوِلْدِ ) كثيرًا من الوصايا والنصائح التي تنفع ابنه وغيره من أبناء المسلمين الحيارى والغافلين ، فلقد خرجت نصائحه من قلبه إلى فلذة كبده، لذا أهيب بالقارىء الكريم أن يطالع هذه الرسالة المذكورة فقد اشتملت على عصارة التجربة التي عاشها العلامة ابن الجوزي رحمه الله، ونرجو الله أن يكون ابنه المذكور قد تاب في آخر حياته.

ولا شك أن ابن الجوزي رحمه الله لا يؤاخذ بما فعله ولده، فهو لم يقصر في دعوته وتربيته،قال تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، كما لم يُفرط ويقصر آدم عليه السلام في تربية ابنه قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وكذا لم يُقصر نوح عليه السلام في دعوة ابنه الذي مات على الكفر، ولم يُقصر إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه آزر، ولم يُقصر لوط عليه السلام في دعوة زوجه، ولم يُقصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في دعوة عمه أبي طالب، ولكنها حكمة الله تعالى ومشيئته.

فهذا نوع من أنواع البلاء، الذي أُصيب به بعض الأعلام والفضلاء من الأنبياء والعلماء، فعلينا أن نصبر ونسلم ونحتسب { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، والله المستعان.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى