صفحات مِن ذاكرة التاريخ (48) أسباب مشاركة بعض العلماء وأهل الفضل في ثورة ابن الأشعث
لحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلقد شارك عددٌ كبيرٌ مِن أهل الفضل في ثورة ابن الأشعث، منهم العلماء، ومنهم القٌراء، ومنهم العٌباد والزٌهاد المشهورين بكثرة التعبد، ومنهم مَن كان يحرِّض على الحجاج، ولكنه لم يخرج مع ابن الأشعث ولم يبايعه، ويذكر خليفة بن خياط، أن عددهم بلغ خمسمائة عالم، ولعل هذا العدد يشمل العلماء والقراء وأهل الصلاح (تاريخ خليفة بن خياط)، فقد ذكر الذهبي أن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، الصحابي الجليل، قد كان ممَن يؤلب على الحجّاج ويدعو إلى الانضمام إلى ابن الأشعث (سير أعلام النبلاء).
وذكر ابن كثير -رحمه الله-: أن الحجاج توهم أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- كان له مداخلة في الأمر (البداية والنهاية)، ومِن الذين شاركوا أبو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي -رحمه الله-، فقد شارك مع ابن الأشعث، وقيل: قتل يوم الزاوية، وعبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه الله-، كان مِن كبار المشاركين في تلك الحركة المحرضين على القتال فيها، وتوفي بوقعة الجماجم حيث اقتحم به فرسه الفرات فغرق -رحمه الله- (الطبقات لابن سعد)، وكذا الإمام الشعبي -رحمه الله- حيث قال: فلم أزل عنده -أي الحجّاج- بأحسن منزلة حتى كان شأن ابن الأشعث، فأتاني أهل الكوفة، فقالوا: “يا أبا عمرو، إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم” (سير أعلام النبلاء).
ومنهم: سعيد بن جبير، ممَن شارك مع ابن الأشعث، وكان يحضض على القتال، ونجا مِن القتل وتوارى عن الحجّاج مدة، ولكن تمكن منه عندما قبض عليه والي مكة وأرسله إليه فقتله الحجّاج سنة 94هـ(1)، وقد كان لمشاركة العلماء في هذه الحركة -بهذا الحجم- أثر كبير على الحركة، كما كان للعلماء المشاركين أثر كبير في ميدان القتال، فكانت لهم كتيبة خاصة بهم تسمَّى كتيبة القراء، وقد لقي الحجّاج وجيشه عنتًا ومشقة مِن كتيبة القراء.
هذا وقد انضم إلى ابن الأشعث طوائف كثيرة وفئات متنوعة، تحركها دوافع مختلفة، ولكن الدوافع التي حركت العلماء كانت دوافع شرعية بحسب ما وصل إليه اجتهادهم، وقد كان القاسم المشترك لكل هذه الدوافع شخصية الحجّاج، الظالمة الجائرة المتغطرسة، المتعطشة لسفك الدماء، ولذلك كان العلماء ينقمون على الحجّاج تعديه لأعظم الحدود في الإسلام وانتهاكه لحرماته، وتساهله في سفك الدماء، وكانوا ينقمون عليه سوء معاملته وظلمه للجميع بمَن فيهم العلماء (أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية، لعبد الله الخزعان).
ولقد وصل الحجاج في إسرافه في القتل إلى أنه كان يقتل بأدنى شبهة، فقد روى أبو داود بسندٍ صحيحٍ عن عاصم قال: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: “اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ(2)، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ، لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجُوا مِنْ بَابٍ آخَرَ لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَخَذْتُ رَبِيعَةَ بِمُضَرَ لَكَانَ ذَلِكَ لِي مِنَ اللَّهِ حَلَالًا!”.
وقال ابن كثير -رحمه الله- معلقًا على بعض تجاوزات الحجّاج -مما يبيِّن سبب استهانته بالقتل-: “فإن الحجّاج كان عثمانيًّا أمويًّا، يميل إليهم ميلًا عظيمًا، ويرى خلافهم كفرًا، ويستحل بذلك الدماء، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم”(البداية والنهاية لابن كثير).
وقال في موضع آخر: “أعظم ما نقم عليه وصح مِن أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-” (البداية والنهاية لابن كثير).
وقد أنكر العلماء على الحجّاج هذا الإسراف في القتل، فروي عن الإمام عبد الرحمن بن أبي نعم أنه قال للحجّاج: “لا تسرف في القتل إنه كان منصورًا”. فقال الحجّاج: “والله لقد هممت أن أروي الأرض مِن دمك”. فقال: إن مَن في بطنها أكثر ممَن في ظهرها” (حلية الأولياء).
وكان جواب سعيد بن جبير -رحمه الله- للحجّاج عندما سأله عن رأيه فيه فقال: “نعم ظهر منك جور في حد الله، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله” (صفة الصفوة لابن الجوزي).
ومِن تجاوزات الحجّاج: تطاوله على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسوء تعامله مع العلماء؛ فلقد تجاوز في معاملته مع ابن عمر، وابن الزبير وأسماء بنت الصديق -رضي الله عنهم جميعًا-.
ومِن ذلك: تطاوله على عبد الله بن مسعود وهو متوفى -رضي الله عنه-، فعن الصلت بن دينار قال: سمعتُ الحجاج على منبر واسطٍ يقول: “عبد الله بن مسعود رأس المنافقين، لو أدركته لأسقيت الأرض مِن دمه!”. قال: وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (ص:35)، قال: “والله إن كان سليمان لحسودًا!”، وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر: قبحه الله وأخزاه، وأبعده وأقصاه”(3).
وقد رٌوي أن الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد -رضي الله عنه- يريد إذلاله فِي سنة أربع وسبعين، فقال: “ما منعك مِن نصر أمير المؤمنين عُثْمَان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فخٌتم(4) فِي عنقه”، وخٌتم أيضًا فِي عنق أنس حتى ورد كتاب عَبد المَلِك فيه(5)، وخٌتم فِي يد جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-؛ لأنه لم يمد يده إليه في السلام، فكان يريد إذلالهم بذلك، وأن يجتنبهم الناس ولا يسمعوا منهم(6)؛ هذا فضلًا عن تأخيره للصلاة عن وقتها، ومع تأخيره الصلاة فهو لا يقبل تنبيه أحد مِن العلماء أو إبداء النصح له في ذلك، وهذا مأخذ آخر أخذه العلماء على الحجّاج وهو عدم قبوله لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
وبهذا يتضح: لماذا شارك بعض العلماء والفقهاء والقراء في ثورة ابن الأشعث؟!
وإن كان بداية الفتنة سببها الخلاف الذي حدث بيْن الحجاج وابن الأشعث حول التوغل في بلاد الترك؛ إلا أن ظلم الحجاج وبغيه هو الأصل الذى تحركت الجماهير مِن أجله.
معارضة بعض العلماء لثورة ابن الأشعث:
هناك طائفة أخرى مِن العلماء عارضوا الثورة واعتزلوها، ولم يروا المشاركة فيها، ومِن أبرز هؤلاء: أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي، وأبو قلابة الجرمي، فلم يشارك، وكان يعتب على غيره ممَن شارك، ومنهم: إبراهيم النخعي، فلم يشارك وكان يعيب على سعيد بن جبير مشاركته فيها، وقد قيل له: أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي. قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي. قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ مَن لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله”، وممَن لم يشارك في حركة ابن الأشعث أيوب السختياني، ومنهم: طلق بن حبيب، فكان معتزلاً الفتنة وكان يقول: “اتقوها بالتقوى”، ومنهم: مطرف بن عبد الله الشخير فقد امتنع عن المشاركة في هذه الفتنة، وحين جاءه ناس يدعونه للمشاركة امتنع، فلما أكثروا عليه قال: “أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهادًا في سبيل الله؟ قالوا: لا. قال: فإني لا أخاطر بيْن هلكة أقع فيها وبيْن فضل أصيبه”، ومنهم مجاهد بن جبر -ويقال: ابن جبير-، فإنه لم يشارك، وحين دعي للمشاركة قال لمَن دعاه: “عٌده بابًا مِن أبواب الخير تخلفتُ عنه”، ومنهم: خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي ومحمد بن سيرين، ويٌعد الحسن البصري واحدًا مِن العلماء الثقات الذين عايشوا هذه الفتنة، لكنه كان يدعو إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، وينهي عن الإثارة والفرقة، ويدعو إلى السمع والطاعة للولاة، وكان يرى وجوب الموازنة بيْن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووحدة الجماعة.
ولقد عاصر الحسن البصري معظم فترات الحكم الأموي، وتأثر بالواقع السياسي في هذه الفترة، فأصبح يمثِّل مدرسة سياسية في عصره؛ فهو يرى أن حكم بني أمية فيه ظلم وجور، ولكنهم في نفس الوقت يملكون القوة العسكرية، وموازين القوى في صالحهم، كما أن الفئة الراغبة في التغيير والشاكية من الظلم، ينقصها التنظيم والإعداد والقوة والصبر، ويرى أن الذين يحملون راية الخروج على حكم بني أمية إما مخلص لدينه، ولكنه لا يصلح للحكم ولا يقدر على إحداث التغيير، وإما رجال يستخدمون الدين والدعوة للتغيير لأغراضٍ دنيوية، منها حبهم للسلطة والحكم، فليسوا بأحسن حال مِن الأمويين، وكان إذا قيل له: “ألا تخرج فتغير؟! فكان يقول: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف”.
ومِن أقواله: “يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله عليكم الحجّاج إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع”، وقدم عليه جماعة مِن العلماء يناقشونه في الخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ولكنه رفض الخروج وقال: “أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة مِن الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم”، ولكنهم لم يسمعوا كلامه ولم يأخذوا برأيه فخرجوا مع ابن الأشعث، فقتلوا جميعًا (سير أعلام النبلاء).
وهكذا اجتهد العلماء في الخروج، فمنهم مَن أصاب، ومنهم مَن اخطأ، وقد ترتب على فشل ثورة ابن الأشعث ازدياد ظلم الحجاج وبطشه(7).
ومِن اللافت للنظر: أن العلماء الذين عاصروا هذه الفتنة وقد اختلفوا في حكم المشاركة فيها، لم يطعن بعضهم في بعضٍ أو يخوِّن بعضهم بعضًا؛ وذلك لأنهم رغم اختلافهم إلا انهم يعلمون أن مسألة المشاركة هذه، مِن مسائل الاجتهاد، فهي مسألة اجتهادية ليس فيها مخالفة للنصوص أو الإجماع أو القياس الجلي، فالعلماء لا تحرِّكهم العواطف، ولكن تحرِّكهم الضوابط الشرعية، فما أحوجنا أن نسير على درب السلف؛ لاسيما في أوقات الفتن.
والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لما انهزم أصحاب الأشعث هرب فلحق بمكة، فأخذه بعد مدة طويلة خالد بن عبد الله القسري، وكان والي الوليد بن عبد الملك على مكة، فبعث به إلى الحجاج، فعن عمر بن سعيد قال: “دعا سعيد بن جبير حين دعي ليقتل فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة”. وعن الحسن قال: لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: “أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير. قال: بل أنت الشقي ابن كسير قال: كانت أمي أعرف باسمي منك. فقال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك نارًا تلظى! قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهًا غيرك، قال: ما تقول في محمدٍ؟ قال: تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم. قال: سيد ولد آدم، المصطفى، خير مَن بقي وخير مَن مضى. قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مضى حميدًا وعاش سعيدًا، ومضى على منهاج نبيه -صلى الله عليه وسلم- لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميدًا على منهاج صاحبيه لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلمًا، المجهز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنتيه، زوَّجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحيٍ مِن السماء. قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأول مَن أسلم، وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين.
قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بث بعلمك. قال: إذاً نسوءك ولا نسرك. قال: بث بعلمك. قال أعفني. قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك. قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله، ترى مِن نفسك أمورًا تريد بها الهيبة وهي التي تقحمك الهلاك، وسترد غدًا فتعلم. قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدًا قبلك ولا أقتلها أحدًا بعدك. قال: إذًا تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك. قال: يا غلام السيف والنطع. فلما ولى ضحك. قال: قد بلغني أنك تضحك. قال: قد كان ذلك. قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: مِن جرأتك على الله عز وجل ومن حلم الله عنك. قال: يا غلام اقتله. فاستقبل القبلة فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79)، فصرف وجهه عن القبلة فقال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة:115)، قال: اضرب به الأرض. قال: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55)، قال: اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم، فذٌبح مِن قفاه. فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: “اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج”، فما بقي إلا ثلاثًا حتى وقع في جوفه الدود فمات.
وعن خلف بن خليفة عن أبيه، قال: “شهدتُ مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قالها الثالثة فلم يتمها”، وعاش بعده خمسة عشر يومًا. وفي رواية: ثلاثة أيام. وكان يقول: “ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي!”، وعن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه. وفى رواية: “فكان الحجاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه، ويقول: يا عدو الله فيمَ قتلتني؟ فيقول الحجاج: ما لي ولسعيد بن جبير؟! ما لي ولسعيد بن جبير؟ وكان مقتل سعيد بن جبير عام 94هـ” (صفة الصفوة لابن الجوزي، والبداية والنهاية).
(2) يعني: اسمعوا وأطيعوا بدون استثناء، ومعلوم أن السمع والطاعة لولاة الأمور فيها استثناء، وليستْ على إطلاقها، بل ذلك في حدود طاعة الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-، فيسمع له ويطاع في حدود طاعة الله ورسوله، وليس على الإطلاق (انظر: شرح سنن أبى داود لعبد المحسن البدر).
(3) قال ابن كثير -رحمه الله-: “كان ناصبيًّا يبغض عليًّا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارًا عنيدًا، مقدامًا على سفك الدماء بأدنى شبهة .وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوعٍ مِن زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدًّا لوجوه، وربما حرَّفوا عليه بعض الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات، وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شيء مِن التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعًا في سفك الدماء، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها .”
وقال أيضًا: “وأعظم ما نُقم عليه وصح مِن أفعاله: سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-، وقد كان حريصًا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرًا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلاثمائة درهم، وكانت فيه شهامة عظيمة، وقد ذهب جماعة مِن الأئمة إلى كفره -وإن كان أكثر العلماء لم يروا كفره-، وكان بعض الصحابة: كأنس وابن عمر يصلون خلفه، ولو كانوا يرونه كافراً لم يصلوا خلفه، فعن قتادة قال: “قيل لسعيد بن جبير: خرجتَ على الحجاج؟ قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر”. وقال الأعمش: “اختلفوا في الحجاج فسألوا مجاهدًا، فقال: تسألون عن الشيخ الكافر”. وقال الشعبي: “الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم”. وقال القاسم بن مخيمرة: “كان الحجاج ينقض عرى الإسلام”. وعن عاصم بن أبي النجود قال: “ما بقيتْ لله -تعالى- حرمة إلا وقد انتهكها الحجاج!” (البداية والنهاية). قلتُ: والذي يظهر مِن كلام ابن كثير -رحمه الله- أن مَن كفَّروا الحجاج، كفروه بسبب بعض أقواله الشنيعة التي يكفر قائلها، وليس بسبب سفكه للدماء، والله أعلم.
(4) وهذا الختم جاء في بعض الروايات أنه عبارة عن خيط فيه رصاص، انظر كتاب “المحن” لأبي العرب التميمي (ص 334)، ويحتمل أن يكون المراد به هو “الوسم”، والوسم في اللغة: هو الكي بحديدة تترك أثر علامة أو كتابة على مكان الكيّ.
(5) قال حنبل بن إسحاق: ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا علي بن يزيد، قال: “كنتُ في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس بن مالك، فقال الحجاج: هي يا خبيث جوال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضـب. قال: يقول أنس: إياي يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله سمعك”، قال: فاسترجع أنس، وشغل الحجاج، فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال: “لولا أني ذكرت ولدي -وفي رواية: لولا أني ذكرت أولادي الصغار- وخفته عليهم ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يتسخفني بعده أبدًا”.
وقد ذكر أبو بكر بن عياش: “أن أنسًا بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول: والله لو أن اليهود والنصارى رأوا مَن خدم نبيهم لأكرموه، وأنا قد خدمت رسول الله عشر سنين”. فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابًا فيه كلام جد، وفيه: “إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبي حمزة فترضّاه، وقبِّل يده ورجله، وإلا حل بك مني ما تستحقه”. فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، همَّ أن ينهض إليه فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة (البداية والنهاية).
(6) انظر (تهذيب الكمال في أسماء الرجال)، لكن هذه الروايات لا يمكن الجزم بصحتها، فأكثر كتب التاريخ تنقلها عن الواقدي، والواقدي وإن كان يُستأنس به في الروايات التاريخية إلا أنه ليس بثقة؛ فروايته ليست بحجة.ٍ
قال الذهبي -رحمه الله-: “وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره مِن غير احتجاج، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجةٍ، وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله” (انتهى مِن سير أعلم النبلاء)، ولكن لا يٌستبعد حصولها؛ لأنها لا تتعارض مع ما اشتهر عن الحجاج مِن الجرأة على الدماء، وظلمه وبغيه، وعدم احترامه وتوقيره للعلماء.
(7) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة: “وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم، فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا، والله -تعالى- لا يأمر بأمرٍ لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك مِن أولياء الله المتقين ومِن أهل الجنة، فليسوا أفضل مِن على وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يُحمد ما فعلوه مِن القتال، وهم أعظم قدْرًا عند الله وأحسن نية مِن غيرهم”.
وعن أبي الحارث قَالَ: “سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ، وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: “يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الدِّمَاءَ، الدِّمَاءَ، لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا آمُرُ بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ، أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ، قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ، أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرَ عَلَى هَذَا، وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ” (السنة الخلال).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: “فَالصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ أَولَى مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي مُنَازَعَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ اسْتِبْدَالَ الْأَمْنِ بِالْخَوْفِ وَإِرَاقَةَ الدِّمَاءِ، وَانْطِلَاقَ أَيْدِي الدَّهْمَاءِ، وَتَبْيِيتَ الْغَارَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الجائر، وروى عبد الرحمن بن هدي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قال: قال ابن عُمَرَ حِينَ بُويِعَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: إِنْ كَانَ خَيْرٌ رَضِينَا، وَإِنْ كَانَ بَلَاءٌ صَبَرْنَا”.
إذن، فإن مسألة خلع السلطان تدور حول اعتبار المصالح والمفاسد؛ فلابد مِن النظر في مثل هذه الأمور إلى عدة مسائل، منها: أمر المصلحة والمفسدة، ومنها: أمر القدرة والعجز، ومنها: اعتبار الضرر الخاص والضرر المتعدي، فلو وجد منكر فلا يجوز إزالته بمنكر أعظم؛ وذلك لأن المقصود إزالة منكرات الشرع كلها، والله -عز وجل- لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، فإذا ترتب على إنكار منكر فساد أعظم كان ذلك مما لا يحبه الله -عز وجل-، والموازنة بيْن المصالح والمفاسد إنما تكون بميزان الشريعة، ولا شك أن سفك الدماء المعصومة مع بقاء المنكرات كما هي فيه عدم تقدير للمصالح والمفاسد، والقدرة والعجز.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ”. ومعنى على إمام ذي سلطان: أي ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذى حلَّ بآخر خلفاء عصر بنى أمية، ولما حل الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع عبد الرحمن الداخل أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامت بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية، ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية. وفي مصر والشام: قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكليةٍ فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ، فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى أو أن يولي ويعزل مَن شاء!
لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير، فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وهذا الترجيح هو مِن مسائل الاجتهاد. والله أعلم.