
بقلم/ د. زين العابدين كامل
صلاح الدين وتحرير مدينة غزة:
ذكرنا في المقال السابق أن الصليبيين دخلوا غزة في عام 1100م، وذلك بعد أن توطدت أقدامهم بأرض الشام، ولم يقم الصليبيون بالاعتناء بغزة، لا من الناحية العسكرية ولا التجارية، بل اتخذوا من مدينة عسقلان مركزًا لهم، ولذا تراجعت غزة عن دورها التجاري والعسكري آنذاك.
وففِي عام 566هـ، سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ من مِصْرَ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَأَغَارَ عَلَى عَسْقَلَانَ وَالرَّمْلَةِ، وَهَجَمَ على غَزَّةَ وسيطر عليها.
وفي عصر الدولة الشيعية الفاطمية، ظَهَرت الْبِدَعُ وَالْمُنْكَرَاتُ وَكَثُرَ أَهْلُ الْفَسَادِ، ففي عام 567هـ، تَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ بِكَمَالِهِ، حَتَّى أَخَذُوا الْقُدْسَ وَنَابُلُسَ وَعَجْلُونَ وَالْغُورَ وَبِلَادَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ وَكَرَكَ الشَّوْبَكِ وَطَبَرِيَّةَ وَبَانِيَاسَ وصور وعكا وصَيْدَا وبيروت وَأَنْطَاكِيَةَ.
وفي عام 583هـ، قام صلاح الدين بتحرير خمسينَ مدينة بعد انتصاره في حطين، ومن المدن التي حررها صلاح الدين،: صَيْدَا وَبَيْرُوتَ وغَزَّةَ وَعَسْقَلَان وَنَابُلُس وَبَيْسَان.
معركة حطين:
ويلزمنا هنا أن نسلط الضوء على موقعة حطين، لنعلم كيف استطاع صلاح الدين أن يحرر غزة بعد انتصاره في حطين.
كانت موقعة حطين علامةَ فارقة في الطريق نحو بيت المقدس، وسُمِّيت تلك المعركة بهذا الاسم نسبةً إلى المكان الذي وقعت فيه، وهو سهل في فلسطين يقع بالقرب من بحيرة طبرية شمال فلسطين.
وكان صلاح الدين قد حقق بعض الانتصارات في أرض الشام وانتصر على الصليبيين في عدة معارك، ومن أشهرها موقعة صَفُّورِيَّة التي هزمهم فيها، وكانت هذه المعركة هي باكورةُ البركات والفتوحات؛ حيث اجتمعت الجيوش الإسلامية بعدها حول صلاح الدين، وقرر أن يسير إلى حطين لملاقاة الصليبيين.
وبالفعل تحرك أولًا إلى طبرية وسيطر على الماء – كما فعل النبي ﷺ بمصادر المياه في غزوة بدر- وكان ذلك في ربيع الأول عام 583 هـ، ثم تحرك الجيش الصليبي نحو طبرية، حيث تعرضوا لبعض الخسائر و الهجمات في الطريق بفعل بعض الكمائن التي زرعها صلاح الدين، ثم اشتد العطش بجيش الصليبيين وأنهكهم التعب.
وفي صباح الجمعة 24 من ربيع الآخر عام 583 هـ التقى الطرفان وتقاتلا إلى الليل، ثم استكملا القتال في يوم السبت، وسعى الصليبيون بكل السبل إلى الوصول إلى الماء، وقد حال صلاح الدين بينهم وبين ما أرادوا، ثم دبَّ الخلاف بين قادة الجيوش الصليبية فانسحب بعضهم من أرض المعركة([1]).
وقد ظهرت عبقرية صلاح الدين العسكرية حين سمح لريموند -أحد القادة- بالفرار، فقد فتح المسلمون له طريقًا ليهرب ومن معه من الجنود، وبهذا ضعف الجيش الصليبي.
ثم أشعل المسلمون النار في كثير من الأشجار والأعشاب اليابسة وكانت الريح تهب باتجاه الصليبيين، فاجتمع عليهم العطش مع حر النار والدخان.
وبدأ صلاح الدين يستخدم ضدهم حربًا نفسية، حيث كانوا يرفعون صليبًا يسمونه صليب الصَّلَبُوتِ، ويعتقدون أن هذا الصليب فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها -حسب زعمهم- عيسى عليه السلام، فأمر صلاح الدين بالاستيلاء على هذا الصليب، وهنا انهارت معنويات الجيش الصليبي.
ثم حاصرهم المسلمون أعلى جبل حطين، حتى أتى نصر الله، فقتلوا منهم وأسروا، ولما سقطت خيمة الملك “جاي” سجد صلاح الدين شكرًا لله، وهو يبكي من شدة الفرح.
نتائج معركة حطين
لقد عفا صلاح الدين عن ملوكهم، ولكنه لم يعفُ عن “أرناط” ملك الْكَرَكَ، حيث جيء به بين يدي صلاح الدين فعرض عليه الإسلام فأبَى فقتله، وقال: “نذرت مرتين أن أقتله: يوم أن سار إلى مكة والمدينة للهجوم عليهما، ويوم قتل قوافل المسلمين غدرًا”.
أسباب انتصار صلاح الدين في حطين:
الأخذ بالأسباب الحسية والمعنوية.
توحيد الأمة “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”.
رفع راية الجهاد.
تعليق القلوب بالله، فلقد قال يومًا لجنوده: “لا تقاتلوا عني وقاتلوا في سبيل الله”.
بركة تطبيق الشريعة والتخلص من البدع.
انتشار العدل سواء في الدولة النورية أو الدولة الأيوبية.
الاستعانة بأهل العلم.
اللجوء إلى الله تعالى.
الحنكة السياسية والعسكرية والعمل الاستخباراتي لصلاح الدين.
فاللهم ارزق الأمة الصلاح لتكون أهلًا لصلاح كصلاح الدين.
غزة بين حطين وبيت المقدس:
يقول أبو شامة في كتاب “الروضتين”: “إن والدة صلاح الدين قد رأت رؤيا وهي حامل في ولدها يوسف بن أيوب (صلاح الدين) أنه قيل لها إن في بطنك سيفًا من سيوف الله تعالى”.
بدأ صلاح الدين بعد النصر المظفر في حطين بفتح الحصون والقلاع والمدن الصليبية على الساحل، ولم يَسِر مباشرة إلى مدينة القدس؛ حتى لا يستنفر القوات الصليبية في المنطقة فتجتمع ضده، ثم من أجل أن يحرم الصليبيين من قواعدهم البحرية، وبهذا حاصر الصليبيين في بيت المقدس وقطع عنهم الإمدادات.
فبدأ بقلعة طبرية واستولى عليها، ثم فتح مدينة عكا، ثم الناصرة وقيسارية وحيفا ونابلس وصيدا والرملة وبيت لحم والخليل وغزة وغيرها من المدن، وهكذا أخذت المدن والقلاع تتهاوى وتسقط الواحدة تلو الأخرى.
فلقد فتح صلاح الدين غزة وحررها بعد حطين وقبل بيت المقدس.
وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى.
([1]) مصطفى مراد الدباغ: بلادنا فلسطين، ص211.