تسييس التاريخ وحرب الدراما (الدولة العثمانية أنموذجًا)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن صياغة المادة التاريخية لأغراضٍ سياسية بمثابة حرب على التاريخ، وهي جريمة وخيانة في حق الإنسانية والحضارة، حيث إن التاريخ يُعتبر هو أهم منتج ثقافي في المجتمعات، وهو يُمثِّل الرصيد الحضاري والثقافي للأمم والدول والشعوب؛ لذا فإن العبث بالتاريخ يُعد جريمة بكل المقاييس، ولا ريب أن التاريخ هو الذي يعكس ماضي الأمم، ويترجم حاضرها وتستلهم من خلاله مستقبلها؛ لذا كان حتمًا علينا أن ننقل التاريخ بكل أمانة دون تحريفٍ أو تزييفٍ.
ولذا فإننا نرى أن المؤرخين القدامى قد نقلوا تاريخ أمة الإسلام بكل دقة وأمانة؛ نقلوه بكل حسناته وسيئاته، وليس أدل على ذلك مِن نقلهم للأحداث المؤلمة التي وقعت خلال القرن الأول الهجري: كأحداث مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وموقعتي: الجمل وصفين، ومقتل الحسين -رضي الله عنه-، وأحداث موقعة الحرة في المدينة المنورة، وأحداث القتال الذي وقع في الحرم في عصر عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، وكذا نقل المؤرخون جميع الوقائع والثورات والفتن التي وقعت في العصر الأموي والعباسي، ولا شك أن في قراءة تلك الأحداث والاطلاع عليها فوائدَ ودروسًا وعبرًا.
وقد اتفق جُل المؤرخين على أن أكثر دولة شُوِّه تاريخها هي الدولة الأموية؛ حيث إن تاريخها لم يأخذ حقه في التدوين والنشر خلال عصرها، بل كٌتب بعد ذهاب دولتهم، فتم تدوينه في أجواءٍ معاديةٍ لبني أمية، ومِن ثَمَّ بدأ “تسييس” التاريخ وصياغته لصالح بني العباس، ثم إننا نرى في العصر الحديث تجربة قد طغت على سابقيها من التجارب؛ ألا وهي: “تجربة تسييس التاريخ العثماني”.
فلقد قام أعداء الدولة العثمانية بحملات تشويه لتاريخها، وتم إنتاج مسلسل: (حريم السلطان)؛ لتشويه تاريخ أحد سلاطين الدولة، وهو “سليمان القانوني” -رحمه الله-، ولا يختلف اثنان على تزوير التاريخ الحقيقي في ذلك المسلسل.
ثم إنك ترى على الجانب الآخر: أن الأتراك قاموا بإنتاج مسلسل (قيامة أرطغرل)، وهو عمل درامي تم إنتاجه باحترافية؛ ليظهر الجوانب المشرقة في التاريخ العثماني، ولا يختلف اثنان على أن هذا المنتج الفني الذي استعرض فترة تاريخية، لم يتمتع بالحيادية، بل وكثرت فيه السقطات والمخالفات، ثم نرى الآن مسلسلًا جديدًا وهو: (ممالك النار)، تم إنتاجه للطعن في التاريخ العثماني أيضًا؛ فهو يصوِّر الدولة العثمانية على أنها كانت دولة احتلال للبلاد والأوطان!
وهكذا نرى أن الأعمال الدرامية والفنية أصبحت تلعب دورًا رئيسًا في الصراعات السياسية، ويتم صياغة التاريخ بحسب ما يقتضيه الصراع السياسي، وهذا أمر مخالف لمبادئ الشريعة الإسلامية التي جاءت بالنهي عن الكذب والتدليس.
وفي هذا الصدد أريد أن ألقي الضوء في إشارات سريعة على تاريخ الدولة العثمانية، لنقف على صورة واضحة حقيقية مجردة من التعصب والهوى، وبعيدة عن التعصب للجنس والعرق، وبعيدًا عن حرب الدراما السياسية القائمة الآن على أشدها، ولا شك أن أحوال الأمم كأحوال الأشخاص، فإن الدول تمر بمراحل بين القوة والضعف، والازدهار والانهيار، وإذا استقرأنا تاريخ الدولة العثمانية، نرى أنها دولة حققت كثيرًا من الإنجازات، ولها مآثر لا ينكرها منصف، ثم اعتراها خلل وقصور أيضًا في بعض الجوانب.
وعين الإنصاف تقتضي: أن ننظر إلى المحاسن والمعايب، ولا نغفل شيئًا من التاريخ؛ فمن مآثر وإنجازات الدولة العثمانية، أنها ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في وحدة الأمة الإسلامية وقوتها، وتوسيع الرقعة الجغرافية للدولة؛ مما ساعد على نشر الإسلام في أوساط ومناطق مترامية الأطراف، وقد أسلمت أكثر قبائل الشركس على أيديهم، ونشروا الإسلام في البلاد التي وصلوها في أوروبا وأفريقيا، وقد كانت الدولة العثمانية تمثل المسلمين، فهي مركز الخلافة، ولا يوجد للمسلمين سوى حاكم أو خليفة واحد في ديار الإسلام؛ لذا فهو رمز للمسلمين، والجميع ينظر إليه نظرة تقدير واحترام، ومِن ثَمَّ يمثِّل الخليفة الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد، فإذا قُطع الخيط انفرط عقد الأمة وتشتت شملها.
ومن مآثر العثمانيين العظمى: فتح القسطنطينية؛ فلقد عجز المسلمون قبلهم عن فتحها منذ أيام معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، رغم كثرة المحاولات والحملات العسكرية التي لم توفق للفتح، وقد تقدمت الدولة العثمانية في أوروبا حتى إنها وصلت إلى النمسا وحاصرتها أكثر من مرة، وقد نجحت الدولة في السيطرة على كل جزر البحر المتوسط،، فلقد استطاع الأوربِّيُّون قبل الدولة العثمانية أن يسيطروا على البحر الأبيض المتوسِّط، وقد نجحوا بالفعل في إخفاء صوت الشرق، وقد تقدمت الدولة العثمانية حتى إنها حاصرت أبواب فيينا، ولقد وقف العالم ينظر ويتابع تقدم الدولة العثمانية في الفتوحات، تعتريه الدهشة وتأخذه الحيرة، وهو يراها تتقدم نحو القسطنطينية، وبلجراد، والبلقان، وبلغاريا، وغاليبول، والمجر، وجزيرتي: قبرص ورودس، والعالم يقف ويشاهد وهو مكتوف الأيدي نحو تقدمها، ولا شك أن تلك الفتوحات أحدثت دويًا هائلًا في العالم آنذاك.
ولك أن تتخيل: أن الدولة العثمانية كانت تضم أكثر البلاد الإسلامية، حيث تجاوزت مساحتها 20 مليون كم 2 تقريبًا، وعند استقراء التاريخ العثماني بحيادية تجد أن الدولة العثمانية ظلت لمدَّة خمسة قرون تقريبًا وهي تُؤدِّي دور المدافع الأوَّل والوحيد عن ديار المسلمين والعرب، وكانت قوَّتهم العسكريَّة تدوي في أنحاء أوروبا، وتقف في وجه الصليبيين على مختلف الجبهات؛ فتقدموا في أوروبا الشرقية ليُخَفِّفوا الضغط عن المسلمين في بلاد الأندلس، هذا فضلًا عن التصدي للأسبان في البحر المتوسط، والبرتغاليين في شرق إفريقيا والخليج.
وأود أن أشير إلى أن: دخول العثمانيين إلى بعض الأقطار الإسلامية قد حماها من الاحتلال والاستعمار، ومِن الشواهد على ذلك: خروج الفرنسيين من مصر بعد معركة أبي قير.
ومِن الجدير بالذكر: أن القوة الأوروبية كانت تنظر إلى القوة العثمانية على أنها قوة إسلامية، وليس قوة تركية، ومِن مآثر الدولة العثمانية: أن اليهود لم يستطيعوا أن يقيموا لهم موطنًا في المنطقة العربية، ولقد حاول اليهود بشتى السبل على أن يحصلوا على موطن لهم، ولكنهم فشلوا رغم العروض الخيالية المذهلة التي قدَّموها للسلطان “عبد الحميد الثاني”؛ لنيل موافقته على قطعة أرض لهم في فلسطين.
وكان رده عليهم: “إن أرض فلسطين ليست ملكي، إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وهذه الأرض امتلكها المسلمون بدمائهم، وهي لا تباع إلا بنفس الثمن!”.
ومِن مآثر الدولة العثمانية أيضًا: محاربتها للدولة الرافضية الشيعية المتمثلة في الدولة الصفوية، وهذا ساعد بلا شك على إضعاف النفوذ الشيعي، وكذلك اهتمت الدولة العثمانية ببناء المدارس والمساجد، واهتمت بالمقدسات الإسلامية؛ لاسيما الحرمين الشريفين، وتم إنشاء خط سكة حديد يصل إلى أرض الحجاز ليحدث التكامل بين أبناء القطر الإسلامي، وقامت بحماية حجاج بيت الله الحرام، وأمَّنت لهم الطرق، وذللت لهم العقبات.
والغرض المقصود: أن الدولة العثمانية هي دولة لها مآثر وإنجازات لا ينكرها منصف.
وعلى الجانب الآخر: كان للدولة العثمانية سلبيات كثيرة، فلقد اعتراها خلل ونقص وقصور في كثيرٍ مِن الجوانب.
ومن الصفحات المظلمة في التاريخ العثماني: تجييش الجيوش لقتال الدعوة السلفية الناشئة في الحجاز، وقد طلبت الدولة من محمد علي باشا مهاجمة الدعوة الجديدة وقتالها، وتتابع هذا الطلب من سنة: “1222 – 1225هـ”، فلم يستجب لهم في بادئ الأمر، ثم استجاب لهم ليحقق مأربه في وأد “اليقظة” التي كادت تعم جزيرة العرب، وأمدوه بالسلاح الذي يعينه على خوض الحرب، وذلك في سنة 1226هـ / 1811م -أي: بعد ولايته على مصر بست سنوات-.
وقد كلف السلطان العثماني محمود الثاني محمد علي باشا والي مصر بمهاجمة الدولة والقضاء عليها؛ فشن محمد علي حربًا لا هوادة فيها ضد الدعوة، وجهَّز الحملة تلو الحملة للقضاء عليها، وقد استعان بالجنود المرتزقة من الأرناؤوط، والجركس، والأرمن، والترك، والبدو.
وفي النهاية تم لمحمد علي ما أراد بعد أن ارتكب الفظائع، واستباح الديار والأموال والنساء، وهدم المدن، وكانت حربًا طاحنة لا معنى لها ولا قيمة، ولا ينتفع بها إلا مؤججوها من “دعاة المسيحية الشمالية”، واستطاع محمد علي باشا استرداد الحجاز بما فيها مكة والمدينة والحرمين الشريفين، ثم زحفت قواته بقيادة ابنه إبراهيم باشا على الدرعية عاصمة نجد، وتم تسويتها بالأرض، وذلك في ذي القعدة 1233هـ / سبتمبر 1818م، وبهذا تمكن محمد علي باشا من إجهاض مشروع الدولة الإصلاحية.
ومِن المآخذ على الدولة العثمانية أيضًا: إهمال اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، ثم انتشار الطرق الصوفية، ومظاهر الشرك والعقائد الفاسدة، والبدع والخرافات، وتضيع مفهوم الولاء والبراء، وانتشار الظلم في بعض الأزمنة، وانحراف بعض السلاطين عن الشرع الحنيف، والابتعاد عن قوانين الشريعة في بعض الأحيان، وانغماس بعض السلاطين في اللهو والترف والشهوات، ثم الحكم الوِرَاثِيّ والذي ترتب عليه: أن بعض السلاطين قد جلسوا على كرسي العرش وهم في مرحلة الطفولة، فلقد جلس السلطان محمد الرابع على عرش الدولة وهو في السابعة من عمره (أي: بعد فطامه بخمس سنوات!).
ومِن أنواع الفساد الذي انتشر أيضًا: وراثة المناصب العلمية: كالتدريس، والفتوى، والقضاء، فإذا مات القاضي يتولى ابنه من بعده، وهكذا! ثم فساد أجهزة الدولة، وانتشار الرِّشوة، وقد عم الفساد الحياة السياسيَّة والعقائديَّة والفكريَّة.
وأخيرًا أقول: إن جهود اليهود والنصارى والغرب، وجميع أعداء الإسلام ما كانت لتؤثِّر في الدولة العثمانية إلا بعد أن انحرفت عن شرع الله، وفقدت شروط التمكين، حيث كان المرجو والمعقول بعد إنجازاتها أن تستمر على قوتها لولا انحرافها، وبهذا يتبيَّن أن الدولة العثمانية لها جانب تاريخي مشرق، وآخر مظلم، وهذا ما تفتقده الدراما الفنية المستخدمة الآن في الصراع السياسي، والذي مِن أجله يصيغون التاريخ ويسيسونه حسب أهوائهم!
وفي النهاية أقول: أنه يجب على القوى المتصارعة مهما عظمت بينها ضراوة الصراع؛ ألا تجعل مِن التاريخ سلاحًا يقبل التطوير.
فمتى يصل هؤلاء إلى مرحلة الرشد الثقافي والسياسي؟!