مقالات متنوعة

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم:

اتخذ النبي ﷺ إجراءً تنظيميًا آخر بعد بناء المسجد؛ وهو المؤاخاة بين المُهاجرينَ والأنصارِ رضي الله عنهم.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: “حالفَ رسول اللهِ ﷺ بينَ المهاجرين والأنصار في دارِنا”([1]).

وذكر محمد بن إسحاق رحمه الله: وآخى رسول الله ﷺ بين أصحابه من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فقال: “تَآخَوا فِي الله أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ”، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ، فَقَالَ: “هَذَا أَخِي”([2]).

وكان الذين آخى بينهم تسعين رجلًا، خمسة وأربعون من المهاجرين، وخمسة وأربعين من الأنصار، ويُقال إنه لم يبق من المهاجرين أحد إلا آخى بينه وبين أنصاري([3]).

ويتناول ابن القيم هذه المؤاخاة قائلًا: آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما نزل قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾[الأنفال: 75]، رد التوارث إلى الرحم، دون عقد الأخوة([4]).

كانت هذه المؤاخاة للتأليف بين أفراد المجتمع الإسلامي الجديد، ولعل النبي ﷺ أراد أن يحل نظام (المؤاخاة في الله) محل نظام (الأحلاف) الذي كان سائدًا في الجاهلية، والذي كان يختلف في كثير من جوانبه عن المبادئ السامية للدين الجديد.

وكان من فوائد هذه المؤاخاة كذلك:

  • تعويض المهاجرين عاطفيًا عن انقطاع ذويهم عنهم، إذ سيجد كل فرد منهم أخًا في الله أبر وأرحم به من أخيه في الرحم.

  • تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، خاصة وأن المهاجرين قد تركوا أموالهم وديارهم بمكة.

  • توحيد الاتجاه نحو الهدف الواحد وذلك عن طريق توحيد الإحساس الاجتماعي بين أفراد المجتمع.

  • زيادة درجة التواصل والتعاون بين المسلمين.

وبالفعل.. فقد حققت المؤاخاة أهدافها بفضل الله تعالى، وأذابت العصبية القبلية من نفوسهم، واتحدوا تحت راية الإسلام ومبادئه وعقيدته، حتى تكوَّن المجتمع الرباني الذي ما عرف التاريخ الإنساني له مثيلاً، وقدم المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم نماذج باهرة في التعامل الإنساني القائم على مبادئ الإسلام.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَتِ الْأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالاً، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَطَلَّقْتُهَا، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئاً مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيراً حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ، وَضَرُّ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَهْيَمْ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟”. قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: “أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ”([5]).

ولعلك تحار بين الإعجاب بإيثار وتضحية سعد رضي الله عنه، وبين النظر بعين التقدير والإجلال لـكرم وخلق عبد الرحمن رضي الله عنه، والذي تمكن بعد ذلك -وهو التاجر الماهر- من شق طريقه في المجتمع الجديد، ثم بارك الله في عمله، ونمت ثروته، فصار من كبار أغنياء المدينة، وتمكن بعد مدة يسيرة، من الزواج، ودفع المهر نواة من ذهب([6]).

وكانت نفوس الأنصار رضي الله عنهم طيبة، خالصة في حبها وطاعتها للرسول ﷺ، تفيض بالمحبة والتقدير لإخوانهم من المهاجرين رضي الله عنهم، والذين ضحوا بكل شيء، ولقوا كل عَنَت ومشقة في سبيل النجاة بدينهم وهجرتهم، وقد استحقوا مدح الله تعالى لهم بأنهم ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر: 9]. وبلغ كرم الأنصار رضي الله عنهم حدًا عالياً عندما اقترحوا على النبي ﷺ أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين رضي الله عنهم، لأن النخل مصدر معيشة الكثيرين منهم، لكن النبي ﷺ رفض هذا الاقتراح، وطلب منهم أن يحتفظوا ببساتين نخلهم لأنفسهم على أن يشاركوا المهاجرين معهم في الثمرة، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالتِ الأنْصَارُ للنبيِّ ﷺ: اقْسِمْ بيْنَنَا وبيْنَ إخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قالَ: “لَا”، فَقالَ: “تَكْفُونَا المَئُونَةَ ونُشْرِكْكُمْ في الثَّمَرَةِ، قالوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا”([7])، ويبدو أنه لم يُرد أن ينشغل المهاجرون بالزراعة لحاجته إليهم في مهام الدعوة والجهاد، كما أنهم كانوا لا يجيدون هذا العمل، خاصة وأن مكة لم تكن مدينة زراعية مما قد يؤدي إلى خفض الإنتاج الزراعي الذي تحتاجه المدينة([8]).

وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة في نفوس المهاجرين، فانطلقت ألسنتهم بمدح الأنصار رضي الله عنهم والثناء عليهم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَجْمَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا عَلَيْهِمْ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَؤُنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ حَتَّى خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ.

فقال النبي ﷺ: “لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ”([9]). وكان المتآخون يتوارثون بعضهم بعضًا، فلما عزّ الإسلام، واجتمع الشمل وذهبت الوحشة، وألف المهاجرون رضي الله عنهم جو المدينة وتعرفوا على وسائل الرزق والعمل فيها وأصابوا من غنائم غزوة بدر ما يسد احتياجاتهم أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَأُوْلُوا الأَرْحَــــامِ بَعْضُــــهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾[الأنفال: 75]، فانقطــــعت المؤاخــــاة فــــي المــــيراث فــــي كــــتاب الله إن الله بكل شيء عليم([10]).

وهكذا قدم المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أروع الأمثلة في تحقيق الأخوة الإيمانية الحقيقية، التي ارتبطت بالدماء والأموال، وكان لها أثر واقعي، ولم تكن مجرد ادعاء، ولا ثرثرة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ۝ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[الأنفال: 62-63]، وقال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الفتح: 29].

وبالطبع لم يكن ذلك ممكنًا إلا بتحقيق الإيمان بالله تعالى ابتداءً، والارتقاء بذلك الإيمان للتغلب على نوازع البخل والشح والأثرة وحب الذات والتمحور حولها، وغيرهما من أمراض القلوب، ففي وجود هذه النزعات لا يصح إخاء، ولا تترعرع محبة.

ويعلق أبو الحسن الندوي رحمه الله على هذه الخطوة بقوله: كانت هذه المؤاخاة مقدمة لنهضة أمة ذات دعوة ورسالة، لصياغة عالم جديد قائم على عقائد صحيحة معينة، وأهداف صالحة منبثقة للـعالم من الشقاق والتناحر، وعلى علاقات جديدة من الإيمان والإخاء المعنوي والعمل المشترك([11]).

([1]) مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب مؤاخاة النبي ﷺ بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم، ضبط: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1 1991م، ص1961، حديث رقم 2530.
([2]) ابن هشام: السيرة النبوية،
([3]) البلاذري: جمل من أنساب الأشراف، ج1 ص319.
([4]) ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد ﷺ، تحقيق: عماد زكي البارودي، خيري سعيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ج3 ص64.
([5]) البخاري: صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب ما جاء في قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ..﴾، ج2 ص110، حديث رقم 2048.
([6]) البخاري: صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب قول الله تعالى: ﴿وآتوا النساء صدقاتهن نحلة﴾، ج3 ص620، حديث رقم 5148.
([7]) البخاري: المصدر السابق، كتاب الشروط، باب الشروط في المعاملة، ج2 ص381، حديث رقم 2719.
([8]) أكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة، منشورات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط1 1403ه/1983م، ص74.
([9]) ابن كثير: البداية والنهاية، ج3 ص510.
([10]) البلاذري: جمل من أنساب الأشراف، ج1 ص318.
([11]) أبو الحسن: السيرة النبوية، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط7 1434ه/2013م، ص282.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى