مَن الذي يحمل شغفًا للمعرفة والعلم ولا يعرف ابن تيمية؟
من الذي لديه همة في المجد وعزيمة في الخير ورغبة في الإصلاح ولا يعرف ابن تيمية؟
كُلما سلكنا سُبل العلم وضربنا فجاج الفنون تلقانا ابن تيمية.
كُلما قلبنا كتابًا وجدناه بين صفحاته، وكلما حضرنا حوارًا فإذا اسمه تتقاذفه الألسن، فهو كالشمس في وضح النهار.
ورغم أن شمسه ساطعة، وبريقه مشرق، فهناك أيادٍ تريد أن تحجب رؤيتنا عن شمسه، لا أقول تحجب شمسه عنا، فأي يد هذه التي تطول الشمس ؟!
حسنًا.. سنتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية..
لمحلة سريعة عن شيخ الإسلام ابن تيمية:
هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخَضِر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية. وُلِد بحرَّان سنةَ 661هـ، ولما بلغ من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هربًا من وجه الغزاة التتار.
نشأ في بيت علم وفقه ودين، فأبوه وأجداده وإخوته وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، وفي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأته، فطلب العلم على أبيه وعلماء دمشق، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير، وعُرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره. ثم توسَّع في دراسة العلوم وتبحر فيها، واجتمعت فيه صفات المجتهد وشروط الاجتهاد منذ شبابه، فلم يلبث أن صار إمامًا يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة، قبل بلوغ الثلاثين من عمره.
في القرن السابع بدأ بريق عقيدة السلف الناصع بالخفوت على إثر ظهور وانتشار الكثير من العقائد الباطلة والمنحرفة وشمل هذا الانحراف عوام الناس وعلماءهم إلا القليل ممن رحم الله.. فالساحة الإسلامية آنذاك مضطربة وتعج بالكثير من الفرق والمقالات والمذاهب الكلامية والفلسفية، كذلك التصوف القبوري والحلولي الاتحادي والتعصب والتقليد المذهبي، وتأويل صفات الله سبحانه وتعالى الذي كان يتصدره المذهب الأشعري، وكان يعتبره معتنقوه أنه هو مذهب أهل السنة في مقابل عقائد المعتزلة والجهمية، يضاف إلى ذلك وجود فرق الرافضة من إمامية وزيدية وباطنية درزية ونصيرية.
في كل هذه الأمواج المتلاطمة من الانحرافات نشأ وترعرع في خضمها شيخ الإسلام، كذلك ولد ابن تيمية والأمة لم تصحو بعد من ضربات التتار والصليبيين بل استمرت حتى وقت تصدره الإمامة والعلم.
ما لا تعرفه عن شيخ الإسلام ابن تيمية:
كثير ما يتداول الإعلام عبارات مجتزأة عن ابن تيمية يرمونه فيها بالتشدد والغلو والتكفير، وهذه العبارات بالإضافة إلى أنها مجتزأة من سياقها، فهي أيضًا منزوعة العهد بتاريخها، فكما قدمتُ عايش ابن تيمية أمواجًا متلاطمة من المذاهب والفرق والحروب، لكن هناك جانبًا لا يعرفه الكثير وهو جانب التيسير والاجتهاد في فقه ابن تيمية، فأحيانًا ما يخالف ابن تيمية أقوال المذاهب الأربعة، وتجد في اختلافه اتصالًا بالأدلة وتيسيرًا على الناس، حتى تجد مَن يخالفه في أغلب أرائه يأخذ بأقواله الفقهية هذه، منها:
– القول بقصر الصلاة في كل ما يسمى سَفرًا، طويلًا كان أو قصيرًا.
– القول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدًا أنه ليل فبان أنه نهار، لا قضاء عليه وصومه صحيح.
– القول بأن المتمتِّع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كما هو في القارن والمُفْرد.
– القول بجواز المسح على الجوربين دون اشتراط أن يكونا صفيقين يمكن تتابع المشي عليهما، كما اشترط الفقهاء، فإذا لم نجد قول ابن تيمية هذا لكانت كل جوارب عصرنا (الشرابات) مما لا يجوز المسح عليه على مذهب الفقهاء.
– القول بجواز التيمم مع وجود الماء، لمن خاف فوات العيد والجمعة أو وقت صلاة أخرى من الصلوات المكتوبة إذا استعمل الماء.
– القول بتوريث المسلم من الكافر الذمِّيِّ، وله في ذلك بحث طويل.
– القول بعدم وقوع الطلاق بالحلف به إذا حنثَ، ولم ينوِ به طلاقًا، وليس على الحالف حينئذٍ إلا كفارة اليمين. وهو المعتمد في فتاوى دار الإفتاء المصرية وكثير من البلدان العربية.
– القول بأن الطلاق ثلاثًا بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة. وهو أيضًا المعمول به فتاوى دار الإفتاء المصرية.
– القول بأن تارك الصلاة عمدًا لا قضاء عليه ولا يشرع له القضاء، بل عليه الإكثار من النوافل رجاء غفران الله له.
– القول بأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة، كما هو مذهب ابن عمر واختيار البخاري.
تلك طائفة من اجتهادات ابن تيمية -وغيرها كثير- التي عُدَّت من مفرداته؛ لأنه خالف بها فقهاء المذاهب الأربعة المعروفة، أو خالف على الأقل الأقوال المشهورة المعروفة لهم، وهي تدل على باع طويل في الاجتهاد، وعلى شجاعة في الجهر بما رآه حقًّا وإن خالف غيره من جِلَّة الفقهاء، وإن حصل له بلاء بسبب ما يجهر به، فقد دخل السجن سبع مرات بسبب آرائه الفقهية والعلمية، ولم يتهم مرة بالتحريض أو التأليب على الدولة أو الحكم.
بل لما سجن في قلعة الإسكندرية ألف رسالة في إصلاح السجون أرسل بها إلى السلطان محمد بن قلاوون شرح فيها حقوق السجين وواجبات الدولة نحوه، ودعا فيها إلى إنهاء دور الضامن الذي كان يقدم خدمات للسجناء مقابل أجور يأخذها ويعطي جزءًا منها إلى الدولة.
وأثرت رسالة ابن تيمية في السلطان الذي طبق عددًا من الإصلاحات المقترحة، منها تعليم السجناء بعض المهن وتهيئة اندماجهم بالمجتمع والإنفاق عليهم ورعايتهم صحيًا، وتخفيف المحكوميات بحسن السلوك. واستمر ابن قلاوون في إصلاح السجون حتى بعد وفاة ابن تيمية بسنوات طويلة.
ويرجح (هنري لاوست) في ترجمته لكتاب «السياسة الشرعية» إلى الفرنسية، أنَّ ابن تيمية صنّفه ما بين (709- 712هـ)، في أعقاب استدعاء ابن قلاوون له من منفاه بالإسكندرية، وبناءً على طلبه فهو يرى أن هناك مطابقة واضحة بين الخطط المرسومة في كتاب «السياسة الشرعية» والإصلاحات المقترحة فيه، والتدابير والإصلاحات التي قام بها محمد بن قلاوون في هذا الوقت.
وهنري لاوست -السابق هذا- مستشرق فرنسي يُعَد أهم من تخصصوا في ابن تيمية، وأكثر المستشرقين إنصافًا له، قضى أكثر من ثلاثين سنة في دراسة عصر المماليك، والحنابلة، وابن تيمية بوجه خاص، وتَرْجَمَ كتاب «السياسة الشرعية» إلى الفرنسية، وقَدَّمَ له مقدمة قيمة وله دراسة بعنوان: «شرائع الإسلام في منهج ابن تيمية».
والحق أن هناك دراسات كثيرة للغرب أنصفت ابن تيمية فهم ينظرون إليه على أنه ذو فكر معتدل وصاحب علم وبراعة في شتى العلوم الشرعية والفكرية.
وبالفعل تنوعت إسهامات ابن تيمية في كافة العلوم الشرعية والإنسانية، فتجده حاضرًا بقوة في التاريخ والمنطق والفلسفة والاجتماع والتصوف، وتأثر به الكثير، فابن خلدون في المقدمة تأثر بقضايا طرحها ابن تيمية في ثنايا كتبه وبنى عليه النظريات الاجتماعية الإبداعية والسابقة لزمانه، وكذلك تأثر بها المؤرخ (أرلوند تويبني) في كتابه: «مختصر دراسة التاريخ»، وحتى (فرنسيس بيكون) تأثر بابن تيمية في نقده لمنطق أرسطو واتّبع الخطوات نفسها التي أقام عليها ابن تيمية مشروعه في هذا الجانب!
كذلك تجد مفكرًا علمانيًا من أصول شيعية مثل (علي الوردي) يثني على فكر ابن تيمية في كُتبه كما في كتاب: «منطق ابن خلدون» وكتاب: «مهزلة العقل البشري».
ولا يبعد إذا قلنا إن المنهج التجريبي الذي قام عليه بنيان الحضارة الغربية تأثر كذلك بابن تيمية.
تقول البروفيسورة (أنكه فون جولن) الأستاذة بجامعة برن للعلوم الإسلاميَّة: «كان ابنُ تيمية -باتِّفاق خصومِه وأنصاره- شخصيَّة ذاتَ طراز عظيم؛ فهو فقيه ومتكلّم ناقد للمنطق الأرسطي، والتصوف من جهة، وناقدٌ استثْنائي وباحثٌ أخلاقي من جهة أخرى».
وتقول أيضًا: «يمثل نقد ابن تيمية بدرجة ما ذروة تراث الخطاب المعارض للمنطق بطريقة اختيار ذكية ومبتكرة للحجج الموجودة بالفعل ولكنها متناثرة… ولا يزال تاريخ دحض ابن تيمية يحتاج إلى الكثير من الكتابات…».
ويقول جورج تامر (المدرس في جامعة فريدريش ألكسندر في ألمانيا): «إن ابن تيمية هو أحد عمالقة التاريخ الفكري الإسلامي، إذ تبرز كتابته بوضوح مدى براعته في العلوم النقلية الإسلامية والفلسفة والكلام، وعلاوة على ذلك فقد كان مجتهدًا موسوعيًا لم يخضع بالكلية للمذهب الحنبلي في الفقه، ولكنه قدم آراءه الخاصة حول الموضوعات الدينية والاجتماعية والسياسة المهمة… ومما لا شك فيه يمكن قطعًا تحديد أوجه التشابه بين كل من أراء ابن تيمية وتعاليم التجريبية البريطانية، إذ يمكن إيجاد المكافئ لكل من التمثيل والقياس في كل من أراء جون اسيوارت ميل وجون لوك، كما أن مل وديفيد هوم يؤكدان على أهمية دور الاستقراء والتمثيل بناء على التجربة والإدراك الحسي من أجل حصول المعرفة..ويعتبر نقده للمنطق الأرسطي استمرارًا لمواقف الرواقيين والشكوكيين، وسابقة للتجريبية الحديثة المبكرة…».
عاش ابن تيمية حياته مجاهدًا بالسنان والبيان، فهو بين دعوة وعلم واجتهاد وتجديد وإفتاء ومناظرة، وبين معارك وحروب وجراح وآلام، فهو عالم مجاهد، كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم إن رأى من بعضهم هلعًا أو رِقة أو جبانة شجّعه وثبّته وبشّره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة وبين له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة.
ومن أهم المعارك التي أبلى فيها بلاء حسنا معركة معركة «شَقحَب» أو مرج الصُفر، التي كانت بين المماليك بقيادة الناصر محمد بن قلاوون سلطان مصر والشام وبين المغول التتار بقيادة قتلغ شاه نويان (قطلوشاه) نائب وقائد محمود غازان إلخان مغول فارس، والتي انتهت بانتصار المسلمين، محطمين طموحات محمود غازان في السيطرة على الشام والتوسع في العالم الإسلامي.
بل لما أراد ابن تيمية أن يفك أسرى المسلمين من المغول علم أنهمم أسروا من اليهود والنصارى الذين هم من أهل الذمة في بلاد المسلمين فلم يرضَ ابن تيمية إلا أن يفك أسراهم كذلك، فيقول عن ذلك: «وَقَدْ عَرَفَ النَّصَارَى كُلُّهُمْ أَنِّي لَمَّا خَاطَبْت التَّتَارَ فِي إطْلَاقِ الْأَسْرَى وَأَطْلَقَهُمْ غازان وقطلو شاه وَخَاطَبْت مَوْلَايَ فِيهِمْ فَسَمَحَ بِإِطْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ لِي: لَكِنَّ مَعَنَا نَصَارَى أَخَذْنَاهُمْ مِنْ الْقُدْسِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلِقُونَ. فَقُلْت لَهُ: بَلْ جَمِيعُ مَنْ مَعَك مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِمَّتِنَا؛ فَإِنَّا نَفْتَكُّهُم وَلَا نَدَعُ أَسِيرًا لَا مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَأَطْلَقْنَا مِنْ النَّصَارَى مَنْ شَاءَ اللَّهُ. فَهَذَا عَمَلُنَا وَإِحْسَانُنَا وَالْجَزَاءُ عَلَى اللَّهِ»([1]). فهذه سماحته ونصرته للمظلومين لا يفرق بين مسلم من أهل الملة ولا كتابي من أهل الذمة، ويقول ابن القيم عن أستاذه ابن تيمية :
«وما رأيته يدعو على أحد منهم قط (يقصد خصومه) وكان يدعو لهم، وجئت يومًا مُبشرًا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزّاهم وقال: «إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه». ونحو هذا من الكلام. فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه»([2]).
في ظل هذه الحياة المناضلة لم يتزوج ابن تيمية، لكنه ترك لنا علماءً أفذاذًا يكفي أنهم إذا ذكروا ذكر ابن تيمية، فمن أهم تلاميذه: الإمام ابن قيم الجوزية، والإمام الذهبي، والإمام الفقيه ابن مفلح، والإمام شمس الدين المقدسي، والحافظ ابن رجب الحنبلي، والحافظ الكبير جمال الدين المِزِّي… وغيرهم الكثير.
تأثر الكثير بابن تيمية، ورفعه كثير من العلماء إلى درجات عالية وهناك من العلماء مَن اختلف معه في أمور العقيدة والفقه، وهناك من قدح فيه، وصدق الشيخ محمد أبو زهرة حين قال عنه: «إن المُشاهَد قديمًا وحديثًا أن الرجل الذي يختلف الناس في شأنه بين إعلاء وإهواء، لا بد أن يكون رجلًا كبيرًا في ذات نفسه، وعظيمًا في خاصَّة أمره، له عبقرية استرعت الأنظار، واتجهت إليها الأبصار… وكذلك كان ابن تيمية ﭬ قد كان عظيمًا في ذات نفسه، اجتمعت له صفات لم تجتمع في واحد من أهل عصره، فهو الذكي الألمعي، وهو الكاتب العبقري، وهو الخطيب المصقع، وهو الباحث المنقب… وقد آته الله لسانًا مبينًا، وقلبًا حكيمًا، وقلمًا عليمًا» فرحمه الله رحمة واسعة.