صفحات مِن ذاكرة التاريخ (40) قراءة حول الملك والخلافة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ولقد تحدثنا في المقال السابق عن مسألة توريث الحكم، ونريد أن نلقي الضوء على مسألة ترشيح معاوية -رضي الله عنه- لابنه يزيد، وأخذ البيعة له في حياته.
الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-:
الحكم على الشيء فرع عن تصوره: ذهب كثيرٌ مِن المؤرخين إلى أن معاوية -رضي الله عنه- قد أخطأ يوم أخذ البيعة لابنه يزيد في حياته، ولكننا نريد أن نلقي الضوء على الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، وذلك مِن باب الإنصاف حتى نستطيع أن نحسن الحكم على مسألة التوريث ليزيد بن معاوية، وأريد أن أشير إلى شيءٍ يسيرٍ مِن فضائله -رضي الله عنه-؛ لأنه مِن الشخصيات التي نالها الكثير مِن التشويه، فمِن فضائل معاوية -رضي الله عنه- دعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- له بالهداية وبالوقاية مِن العذاب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: (اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (هَادِيًا): أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَي: مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ.
وثَبَتَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا لمعاوية فقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ) (رواه أحمد وابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره)؛ فضلًا عن أنه كان مِن كتبة الوحي لرسول اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية”، ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: “ما رأيتُ أحدًا أسود مِن معاوية! قال: قلتُ: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه”. وفي رواية: “ما رأيت أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود مِن معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه, وهو أسود منهم -أحكم منهم وأكثرهم سيادة-“. ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: “ما رأيتُ رجلًا كان أخلق بالملك مِن معاوية” (البداية والنهاية).
وقال ابن أبي العز الحنفي: “وأول ملوك المسلمين معاوية، وهو خير ملوك المسلمين”.
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: “واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكًا ورحمة” (مجموع الفتاوى لابن تيمية).
وقال: “فلم يكن مِن ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نسبتْ أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل”, وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز، فقال: “فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا، والله في عدله” (منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية).
ثم نعود إلى استقراء الواقع وذكر الملامح العامة للواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، فبعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة كانت بنو أمية قادرة فعلًا على الحكم، واستطاع معاوية أن يحكم الدولة بحكمته وأن يحافظ على وحدتها، بعد سنواتٍ مِن الفرقة والقتال الذي وقع بيْن أبناء الأمة، وكان معاوية يرى -والله أعلم- أن الأمة يصعب أن تجتمع على شخصٍ واحدٍ بعد موته عن طريق الشورى، وكان يعلم أيضًا أن بني أمية لن ترضى بأحدٍ مِن غيرها.
وفي هذا الصدد يرى ابن خلدون أن الفترة النبوية هي فترة استثنائية، انتصر فيها الوازع الديني على الوازع العصبي (القبلي – العشائري)، الذي تقوم عليه الملك، لكن لما بدأ هذا الوازع يقل عند الناس كان لا بد مِن عودة قانون العصبية إلى مسار التاريخ” (انتهى).
فالذي دعا معاوية -رضي الله عنه- لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون مَن سواه: إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاقهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ مِن بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وأما مَن بعدهم مِن لدن معاوية، فكانت العصبية قد أشرفتْ على غايتها مِن المُلك، والوازع الديني قد ضعف، فلو عهد إلى غير مَن ترتضيه العصبية لردتْ ذلك العهد وانتقض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفُرقة والاختلاف، والقتال الذي توقف بيْن المسلمين يسهل أن يعود مرة أخرى، فمعاوية -رضي الله عنه- قد عدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع.
قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- في تعليقه على “العواصم من القواصم”: “عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس مِن الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه” (انتهى).
يروي الذهبي -رحمه الله- في تاريخ الإسلام: “خطب معاوية، فقال: اللهم إن كنتُ إنما عهدتُ ليزيد لما رأيتُ مِن فضله فبلغه ما أمَّلت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الوالد لولده، وإنه ليس بأهل فاقبضه قبْل أن يبلغ ذلك”.
ها هو معاوية -رضي الله عنه- يدعو في خُطبه بمثل هذا الدعاء، ويستمع إلى قول السامعين: آمين، بل لما تنازل حفيده معاوية الثاني عن الخلافة وتركها للأمة نشبت الخلافات بالفعل، ثم حسمها البيت الأموي لثاني مرة وأمسك بالحٌكم مروان بن الحكم، ولقد واجهت الدولة الأموية كثيرًا مِن الثورات وحركات الخروج والتمرد عليها، وكانت كثير مِن هذه الثورات يتزعمها أناس لهم ثقلهم الكبير ووزنهم الضخم في وجدان كل المسلمين، لكنها انتصرت عليهم برغم كل هذا، ومِن أقوى الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية ثورة العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، ودارت معارك طاحنة مثل معركة: “دير الجماجم”، حتى عرض عليهم عبد الملك أن يعزل الحجاج عن العراق إنْ كان هذا يرضيهم، لكن الثوار رفضوا ثم هزموا، واستطاعت الدولة الأموية القضاء على حركة الخوارج أيضًا في خراسان وما بعدها، واستقرت أمور الدولة وبدأت الفتوحات مِن جديدٍ في عهد عبد الملك بن مروان.
إذن، خلال عشرين سنة تقريبًا ظل البيت الأموي يواجِه ثوراتٍ متعددةٍ وقويةٍ، وقياداتها مِن كبار الزعماء، لكنها استطاعت أن تهزمها كلها ثم تستقر، ثم تبدأ في حركة الفتوحات… فأيُّ البيوت العربية كان يستطيع ذلك في هذا الوقت؟!
ومِن شهادة التاريخ أيضًا: أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، مع كل تقواه وورعه وزهده، وتلك الطفرات التي أحدثها في الحكم والإدارة؛ إلا أننا لا نجد في أي مرجعٍ تاريخي أنه كان يستطيع إلغاء نظام الوراثة وإعادتها إلى الشورى، بل ورد عنه ما يفيد العجز عن هذا صراحة، فقد قال عند الموت: “لو كان لي مِن الأمر شيء ما عدوتُ بها القاسم بن محمد”، فبلغت هذه المقولة القاسم بن محمد، فترحم عليه، وقال: “إن القاسم ليضعف عن أهليه؛ فكيف يقوم بأمر أمة محمد؟!” (الطبقات الكبرى لابن سعد)، لكن الذي تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز يزيد بن عبد الملك؛ بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، بعهدٍ مِن أخيه سُليمان بن عبد الملك على أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز.
إذن لابد أن نعلم أن الواقع يفرض نفسه أحيانًا؛ فعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يرى أن القاسم هو الأفضل، ولكن المصلحة كانت تقتضي خلاف ذلك؛ لذا نقول: لعل معاوية -رضي الله عنه- كان معذورًا فيما فعل، أو أنه اجتهد حسب معطيات الواقع آنذاك.
وقد فعل معاوية -رضي الله عنه- ذلك وهو يرى أن هذا هو الأصلح للأمة، وأن مقام اجتماع الأمة وعدم تفرقها أولى مِن أي اعتباراتٍ أخرى؛ فلقد اجتهد -رضي الله عنه- فلعله أصاب، ولعله أخطأ، وفي الحالتين هو مأجور -بإذن الله تعالى-، ولا يصح بأي حال مِن الأحوال إهدار فضل معاوية -رضي الله عنه-؛ فله في الإسلام سعي مشكور، وعمل مبرور، وآثار حسنة، وإن كان الأصل -كما ذكرنا- أن يكون الأمر شورى في المسلمين.
وختامًا، كانت هذه قراءة مختصرة حول بعض مسائل الملك والخلافة لعلها تساعدنا في إبراز بعض حقائق التاريخ.
والله المستعان.