الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتاريخ كل شيء من حيث اللغة غايته ووقته الذي ينتهي إليه، ولهذا يقال “فلان تاريخ قومه في الجود” أي الذي انتهى إليه ذلك، وأما كلمة تأريخ من حيث الاصطلاح فتعني الزمن والحقبة، ولم يرد هذا الاصطلاح بهذا المعنى لا في القرآن ولا في السنة، ولا في الأدب الجاهلي، ولم يُستخدم إلا في عهد عمر -رضي الله عنه-.
وكانت فكرة الوقت وتحديده في المجتمع الجاهلي غير محددة ومشوشة عند العرب، وكان العرب عادة يؤرخون بكل عام بأمر مشهور متعارف عليه؛ فأرخ العدنانيون بعام نزول إسماعيل -عليه السلام- مكة المكرمة، وعام تفرق ولد معد، وعام رئاسة عمرو بن لحي الخزاعي الذي بدَّل دين إبراهيم -عليه السلام- بعبادة الأصنام، وعام وفاة كعب بن لؤي، وعام الغدر أو حجة الغدر -في ذلك العام وثب قوم من بني يربوع على رسل أحد ملوك حمير وكان قد وجههم بكسوة إلى الكعبة ونهبوا متاعهم، وكان ذلك قبل البعثة بمائتي عام تقريبًا-، وعام الفيل، وغير ذلك.
وأرَّخت قريش بوفاة هشام بن المغيرة المخزومي والد أبي جهل، وأرخوا كذلك ببنيان الكعبة، وقد ذكر أهل السير والتاريخ أن عمر -رضي الله عنه- دوَّن الدواوين ووضع الأخرجة وسن القوانين، واحتاج إلى تاريخ يتعامل به.
قال ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية:“رُفع إلى عمر بن الخطاب صك مكتوب عليه دين لرجلِ على رجلِ ويحل الدين في شعبان، فقال عمر -رضي الله عنه-: أي شعبان؟ أمن هذه السنة؟ أم التي قبلَها؟ أم التي بعدها؟ ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئًا يعرفون فيه حلول ديونِهم”.
وجاء أيضًا في سبب البدء بالتاريخ الهجري: أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر -رضي الله عنهما- أنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ، فجمع عمر الناس للمشورة فاستشارهم، فقال بعضهم: أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملِك أرخوا بولاية من بعده؛ فكره الصحابة ذلك، وقال آخرون: بل أرخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، ثم رأوا أن يكون تاريخ المسلمين مرتبط برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال البعض: مِن عام مولده، وقال غيرهم: بل بمبعثه، ورأى آخرون مِن وفاته. قال ابن الجوزي -رحمه الله-: “لم يؤرخوا بالبعث؛ لأن في وقتهِ خلافًا، ولا من وفاتِه لما في تذكره من الألم”.
ووافق عمر -رضي الله عنه- على التأريخ بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة؛ لأن الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، وبها استقامت ملة الإسلام، وتأسست دولته الأولى، واختار الصحابة -رضي الله عنهم- أن يبدأ العام بشهر المحرم مع أن الهجرة كانت في شهر ربيع الأول؛ وذلك لأن مناسك الحج تنتهي في شهر ذي الحجة فيبدأ المسلمون بعد عودة الحجيج إلى أوطانهم عامًّا جديدًا؛ ولأن شهر المحرم هو أخر الأشهر الحرم، وأن بيعة العقبة التي بمقتضاها اتفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الأوس والخزرج على الهجرة كانت في ذي الحجة، فكان أول هلال استهل بعدها هو هلال المحرم.
هكذا اختار المسلمون تاريخهم في عهد أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، واستمر التاريخ الهجري هو التاريخ الرسمي في بلاد المسلمين.
وفي القرن الثاني عشر الهجري أرادت الدولة العثمانية تحديث جيشها وسلاحها فطلبت مساعدة الدولِ الأوربية العظمى فوافقت على مساعدتها بشروطٍ، منها:إلغاء التقويم الهجري في الدولة العثمانية؛ فأذعنت لضغوط الدول الأوروبية، وفي القرن الثالث عشر الهجريِ أراد خديوي مصر أن يستقرض مبلغًا من الذهب من بعض الدول الأوربية لتغطية مصاريف قناة السويس، فوافقوا مقابل ستة شروطٍ، منها: إلغاء التقويم الهجري في مصر؛ فتم إلغاؤه سنة 1292هـ – 1875م واستبدلَ به التقويم الميلادي! فلابد لنا أن نتعامل بقدر المستطاع بتاريخ أمتنا؛ فهو ليس أمرًا فرعيًّا، بل هو هوية أمة وشعار ملة.
وللأسف فإن كثيرًا مِن المسلمين يتعاملون في كثير مِن أمور دينهم كالزكاة والديون ونحوها بالأشهر الميلادية النصرانية الرومانية: كيناير وفبراير، ومنهم مَن يحفظ عن ظهر قلب الأشهر القبطية: كطوبة وأمشير، ومنهم مَن يكون عالمًا بالأشهر العبرية والسريانية: كأكنون وأيلول!
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: “وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضًا إنما علَّقَت الأحكام بالأهلة، وإنما بدَّل مَن بدل مِن أتباعهِم، وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها، وأبْينها وأصحُّها وأبعدُها عن الاضطرابِ”.
وقد نقل السخاوي عن العِماد الأصبهاني الشافعي قوله: “فليست أمة أو دولة إلا ولها تاريخ يرجعون إليه، ويُعوِّلون عليه، ينقله خَلَفُها عن سَلَفِها، وحاضِرُها عن غابِرها، تُقيَّد به شَوارد الأيام، وتُنصَب به مَعالمُ الأعلام، ولولا ذلك لانقَطَعَت الوُصَل، وجُهِلَت الدول… وإن التاريخ بالهجرة نسخ كل تاريخ متقدِّم” (للمزيد راجع كتاب: الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ للسخاوي، وكتاب أدب الكتاب للأبي بكر محمد بن يحيى الصولي، والتاريخ والمؤرخون العرب د.السيد عبد العزيز سالم، وأرشيف منتدى الفصيح).
فلابد أن ننتبه إلى هذه القضية، وأن نتعامل بالأشهر العربية التي ذكرها ربنا في القرآن واعتمدها للمسلمين، وأن نعتز بها، ونعظم ما عظمه الله -تعالى-، ونحافظ على هوية أمتنا؛ لأن التاريخ من العناصر التي تكوِّن هوية الأمة.