مقالات تاريخية

مدينة قُرطبة والجضارة الإسلامية

تاريخ مدينة قرطبة

بقلم/ د. زين العابدين كامل 

تُمثِّل مدينة قرطبة أهمية كبيرة في بلاد الأندلس؛ فهي عاصمة الأندلس وقاعدته، وهي عبق الحضارة الإسلامية الزاهرة هناك، وتقع قرطبة على نهر الوادي الكبير في الجزء الجنوبي من إسبانيا.

قال عنها  ابن حوقل الموصلي وهو يَصِفُها: «وأعظم مدينة بالأندلس: قرطبة، وليس لها في المغرب شبيهٌ في كثرة الأهل وسعة الرقعة.

ويقال: إنها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كذلك فهي قريبة منها، وهي حصينة بسورٍ مِن حجارة، ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة، والرصافة: مساكن أعالي البلد مُتَّصِلَة بأسافله من رُبُضِهَا[1]، وأبنيتها مشتبكة محيطة من شرقيها وشماليها، وغربها وجنوبها، فهو إلى واديها، وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع، ومساكن العامَّة برُبُضِها، وأهلها متموِّلون[2] مُتَخَصِّصُون[3].

وقال عنها الإدريسي: «ولم تخلُ قرطبة قَطُّ من أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وتُجَّارها مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة، ولهم مراكب سَنِيَّة وهممٌ عَلِيَّة»[4].

وقال الحِميري: «قرطبة: قاعدة الأندلس، وأُمُّ مدائنها، ومستقرُّ خلافة الأمويين بها، وآثارهم بها ظاهرة، وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تُذْكَر، وهم أعلام البلاد وأعيان الناس، اشتهروا بصحَّة المَذْهَبِ، وطيب المكسب، وحُسن الزيِّ، وعلوِّ الهمَّة، وجميل الأخلاق، وكان فيها أعلام العلماء وسادات الفضلاء»[5].

ويصفها ياقوت الحموي فيقول[6]: «مدينة عظيمة بالأندلس وَسَط بلادها، وكانت سريرًا لمَلِكِهَا وقصبتها[7]، وبها كانت ملوك بني أمية، ومَعْدِن الفضلاءِ، ومنبع النبلاءِ من ذلك الصُّقْع»[8].

ويُسهب أبو الحسن بن بسَّام الشنتريني في وصفها فيقول: «كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأُمَّ القرى، وقرارة أهل الفضل والتُّقَى، ووطن أُولِي العلم والنُّهى، وقلب الإقليم، وينبوعَ مُتَفَجّر العلوم، وقبة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر، وبحر دُرَرِ القرائح؛ ومن أُفقها طلعت نجوم الأرض، وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر؛ وبها انتشأت التأليفات الرائقة، وصُنِّفَتِ التصنيفات الفائقة؛ والسبب في ذلك -وتبريز[9] القوم قديمًا وحديثًا هناك على مَنْ سواهم-: أن أُفُقَهُمْ القرطبيّ لم يشتمل قطُّ إلَّا على أهل البحث والطلب لأنواع العلم والأدب.

وبالجملة: فأكثر أهل بلاد هذا الأفق -يعني قرطبة خاصةً والأندلس عامَّة-؛ أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نـزلوها؛ فبقي النسل فيها بكل إقليم على عرقٍ كريم، فلا يكاد بلدٌ منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر»[10].

ويَصِفُها وأَهْلَهَا ابن الوردي في خريدة العجائب فيقول: «وأهلها أعيان البلاد، وسراة الناس في حسن المآكل والملابس والمراكب، وعلو الهمَّة، وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وأجِلَّاء الغزاة وأمجاد الحروب»، ثم قال بعد أن وصف مسجدها وقنطرتها: «ومحاسن هذه المدينَة أعظم مِن أن يحيط بها وصف»[11].

 

قُرطبة في العصر الإسلامي:

لقد نال شرف فتح قرطبة: طارق بن زياد بمعاونة مُغيث الرومي أحد قادة الفتح الإسلامي، وكان فتحها عام 93هـ/712م، وكان الوليد بن عبد الملك هو الذي وجَّه مُغيثًا إلى الأندلس غازيًا، ومنذ ذلك الحين سطع نور قرطبة، وأصبحت مدينة حضارية عالمية، لا سيما بعد دخول عبد الرحمن الداخل –صقر قريش- بلاد الأندلس عام 138هـ/756م.

وفي عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر، بلغت قرطبة أوج ازدهارها، وقمة ريادتها وحضارتها على المستوى الثقافي والسياسي، حيث أصبحت قرطبة هي عاصمة الدولة الأموية في بلاد الأندلس، وكانت قرطبة آنذاك تُضاء ليلًا بالمصابيح في حين كانت أوروبا مظلمة.

وفي القرن الرابع الهجري أصبحت قرطبة مدينة عصرية متقدمة، بل وأصبحت مركزًا ثقافيًا ومجمعًا علميًّا، حيث كثرت فيها المكتبات والمدارس، وشهدت نهضة علمية كبيرة، وكانت البعثات العلمية تأتي إليها من دول أوروبا، لتنهل من علمها وتستضيء بنورها.

فبينما كانت أوربا في عصورها المظلمة تتقلب في غيابات التخلف، كانت الأندلس تعيش عصرها الحضاري الذهبي.

هذا وقد اهتم بنو أمية بقرطبة اهتمامًا كبيرًا، وقد شمل ذلك جميع نواحي الحياة المختلفة، مِن: ثقافة، وزراعة، وصناعة، وبناء الحصون، ودور الأسلحة، وقد شقوا الترع وحفروا القنوات، وأقاموا المصارف، وجلبوا للأندلس أشجارًا وثمارًا لم تكن تزرع فيها، حتى غَدَت قرطبة تنافس: القسطنطينية، وبغداد، والقيروان، والقاهرة، وأطلق عليها الأوربيون: «جوهرة العالم!».

قُرطبة مدينة العلم والعلماء:

لقد ازدهرت حضارة الأندلس ازدهارًا عظيمًا إبان الحكم الأموي للبلاد، حيث اشتهرت الأسرة الأموية بحبها للعلم والعلماء، وذلك بداية من مؤسس الدولة عبد الرحمن الداخل، والذي كان معروفًا باتساع علمه وثقافته، حيث اهتم صقر قريش بنشر العلم، وإقامة المدارس والمعاهد التعليمية، حتى غدت قرطبة مهدًا للحياة الراقية، ومصدرًا للعلم والحضارة.

ثم تولى بعد عبد الرحمن الداخل مجموعة من الأمراء ساروا على نهجه، واشتهروا بحبهم الجم للعلم والثقافة، وقد أثمر ذلك عن حب الشعب الأندلسي للعلم وشغفه للتثقيف؛ حتى إن الناس كانوا يفخرون ويتباهون بوجود المكتبات في بيوتهم.

وقد ازداد حب أهل قرطبة للعلم واقتناء الكتب في العصر الإسلامي، ومن الشواهد على ذلك: ما ذكره المقري على لسان أبي يحيى الحضرمي، وهو الرحالة المشهور الذي ذهب إلى سوق الكتب بمدينة قرطبة لشراء أحد الكتب، حيث كان ذلك يتم عن طريق المزاد العلني، فقال الحضرمي: «أقمتُ مرَّة بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح[12]، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إلى المنادي بالزيادة عليَّ، إلى أن بلغ فوق حدِّه، فقلت له: يا هذا أرني مَن يزيد في هذا الكتاب حتى بلَّغه إلى ما لا يساوي! قال: فأراني شخصًا عليه لباس رياسة، فدنوتُ منه، وقلتُ له: أعز الله سيِّدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركتُه لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده؛ قال: فقال لي: لستُ بفقيه، ولا أدري ما فيه، ولكنّي أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فها موضع يسع هذا الكتاب، فلمَّا رأيتُه حسن الخط جيِّد التجليد استحسنته، ولم أبالِ بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير.

قال الحضرمي: فأحرجني، وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيرًا إلا عند مثلك، يعطى الجوز مَن لا عنده أسنان[13]، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندي قليلًا، وتحول قِلَّة ما بيدي بيني وبينه»[14].

فمِن المعروف والمشهور: أن مدينة قرطبة حباها الله بحكام ذوي شغف بالعلم، وتقدير وتوقير للعلماء، وقد تميَّزت قرطبة بوجود جامعة علمية تُدرَّس فيها العلوم المختلفة، وتضم أعظم العلماء، بل ويفد إليها الطلاب من كلِّ حدبٍ وصوبٍ؛ ولذا كانت قرطبة مُضيئة في سماء العلوم ومحراب الإنسانية، وكانت تمثِّل قبلة العلم والعلماء، لا سيما في القرن الرابع الهجري.

ومن علماء قرطبة الذين أسهموا بشكلٍ كبيرٍ في نفع البشرية، وازدهار علم الطب: «العلامة الزهراوي»، واسمه: خلف بن عباس أبو القاسم الزهراوي (325 -404هـ /936 – 1013م)، وهو أشهر جراح، وطبيب، وعالم بالأدوية آنذاك، وقد وُلِد الزهراوي بالزهراء، من ضواحي مدينة قرطبة، ونشأ بها، وتعلَّم الطب بجامعة قرطبة على أيدي أطبائها، وقد بَرَع في فن الطب حتى أصبح الزهراوي طبيب الخليفة الأُموي الحكم الثاني، وقد استطاع الزهراوي أن يُحدِث قفزة هائلة في مجال علم الطب، فقيل: إنه أول مَن أسس علم الجراحة العامة في العالم، وهو المبتكر الأول لعملية القسطرة، وهو أول مَن أجري عملية شق القصبة الهوائية، وهو أول مَن نجح في إيقاف نـزيف الدم أثناء العمليات الجراحية، وذلك بربط الشرايين الكبيرة، وهو أول مَن مارس تخييط الجروح من الداخل كي لا تترك أثرا مرئيًّا، وهو كذلك أول رائد لفكرة الطباعة في العالم[15].

فهذا مثال واحد فقط لأحد علماء قرطبة؛ وإلا فالتاريخ يزخر بكثيرٍ من العلماء الذين تخرَّجوا من قرطبة وعاشوا فيها، وأسهموا بشكلٍ كبيرٍ في تَقَدُّم مسيرة الإنسانية.

ومِن هؤلاء: ابن طفيل، ومحمد الغافقي (أحد مُؤَسِّسِي طبِّ العيون)، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد، والإدريسي، وأَبو بكر يحيى بن سعدون ابن تمام الأزدي، والقاضي القرطبي النحوي، والحافظ القرطبي، وأبو جعفر القرطبي، وغيرهم كثير.

وللحديث بقية عن مدينة قرطبة وجامعها.

 

[1]   الرُّبُض: جماعة الشجر الملتفّ، انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادَّة ربض (7/149).
[2]   تَمَوَّلَ الرجل: صار ذا مالٍ. انظر: الرازي، مختار الصحاح، مادَّة مول (ص 642).
[3]   اختصَّ فلانٌ بالأَمر، وتخصَّصَ له: إذا انفرد به. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادَّة خصص (7/24).
[4]   الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (2/275).
[5]   الحِميري، الروض المعطار في خبر الأقطار (ص456).
[6]   ياقوت الحموي، معجم البلدان (4/324).
[7]   قَصَبةُ البَلد: مَدينَتُه، ووسطه. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادَّة قصب (1/674)، والزبيدي: تاج العروس، مادَّة قصب (4/43).
[8]  الصُّقْعُ: ناحيةُ الأَرضِ. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة صقع (8/201).
[9]  أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (1/31).
[11]  التسفير هو: التجليد.
[13]  المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/463).
[15]  شوقي أبو خليل، علماء الأندلس (ص31)، وعلي بن عبد الله الدفاع، رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية (ص266).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى