المقالات

قصة ميلاد دولة

قصة ميلاد دولة

مُقَدِّمَة

امتازت الرسالة الإسلامية بأنها دين ودولة، ومنهج حياة، أي أنها عقيدة دينية تنبثق منها شريعة، يقوم علىٰ هذه الشريعة نظام اجتماعي كامل أنزله الله تعالىٰ ليحقق سعادة البشر في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [سورة طه: 123].

وكما حمَّل الله سبحانه النبي ﷺ مسئولية تبليغ هذه الرسالة للناس (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين) [سورة المائدة: 67]، فقد حمَّله كذلك مسئولية الحُكم بين المسلمين طبقًا لمبادئ وأصول هذه الرسالة،  قال تعالىٰ: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [سورة المائدة: 49]، وقال تعالىٰ: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [سورة النساء: 105]، وذكرت النصوص أن المسلم لا يكون مسلمًا حقًا إلا إذا ارتضىٰ حكم الرسول ﷺ، قال تعالىٰ: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة النساء: 65]، وبذلك يتبين أن الإسلام عقيدة وشريعة، عقيدة وعبادة ونظام حُكم، وكان هذا الأمر واضحًا تمامًا في ذهن وتفكير النبي ﷺ منذ بداية الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ، كان يعلم أن مبادئ وأصول هذه الرسالة ينبغي تطبيقها في واقع حياة الناس، كان يُوقِن منذ البداية أن هذا الدين لابد أن تقوم له دولة ونظام حُكم، يظهر هذا واضحًا فيما ذكره الطبري أن مشيخة قريش دخلوا علىٰ أبي طالب فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فأنصِفنا من ابن أخيك، فمُره فليكُف عن شتم آلهتنا وندعَه وإلهَه، قال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله ﷺ، قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، وقد سألوك النَّصَف أن تكف عن شـــتم آلهتهم ويدَعوك وإلهك، قال: (أي عم، أوَلا أدعوهم إلىٰ ما هو خير لهم منها؟) قال: وإلام تدعــــــوهم؟ قال: (أدعـــوهم إلىٰ أن يتكلموا بكلمة تــــدين لهم بها العرب ويملكون بها العَــــــجم). قال: فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبِيك؟ لنعطينَّكَــــها وعــــــشرًا أمثالــــــها، قال: (تقولوا: لا إله إلا الله)، قــال: فنفــروا وقــالوا: سَــلْنا غـــير هــذه، فقـــال: (لو جئتموني بالشمس حتىٰ تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها). قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابًا.

وقد انتبه بعض العرب إلىٰ هذا الأمر، وقدَّر أن هذه الرسالة سوف يكون لها دولة، فقد روىٰ ابن إسحاق عن ابن شهاب الزهري أن النبي ﷺ عندما كان يعرض نفسه علىٰ القبائل العربية لعله يجد نصيرًا يؤمن به أتىٰ بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلىٰ الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: أرأيت إن نحن تابعناك علىٰ أمرك، ثم أظهرك الله علىٰ من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال لهم رسول الله ﷺ: (الأمر لله يضعه حيث يشاء) فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك).

وحين قابل النبي ﷺ عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، أكرمه وأجلسه علىٰ وسادته، وجلس هو علىٰ الأرض، وقال له: (لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَىٰ من حَاجتهم –أي فقر المسلمين-، فواللهِ لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّىٰ لَا يُوجد من يَأْخُذهُ، وَلَعَلَّكَ إنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَىٰ مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقلة عَددهمْ، فواللهِ لِيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ عَلَىٰ بَعِيرِهَا حَتَّىٰ تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ، وَلَعَلَّكَ إنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَىٰ أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَاَيْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنَّ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ).

ولم يكن الوضع مهيئًا في مكة لتأسيس هذه الدولة، فقد جاهدت قريش لإيقاف دعوة النبي ﷺ وصد الناس عنها، لذلك ما إن هاجر ﷺ إلىٰ المدينة حتىٰ شرع علىٰ الفور في تأسيس هذه الدولة، وتنظيم المجتمع الإسلامي الجديد فيها.

ودراسة عهد النبي ﷺ في المدينة توضح أنه أرسىٰ قواعد هذه الدولة كأحسن ما يكون التنظيم في كافة المجالات المجتمعية والإدارية والسياسية والمالية والاقتصادية و…، وألَّف حكومـــة ملائمـــة تمـــامًا لعصـــره لإدارة هـــذه الدولـــة الجــــديدة.

وجدير بالذكر أن المسلمين حين فكروا في بدء التاريخ الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختاروا الهجرة من بين المقترحات الأخرىٰ، وهذا يدل علىٰ أنهم نظروا إلىٰ بدء قيام الدولة الإسلامية، أو تمام الدين والدولة في الدعوة الإسلامية، ولا شك أنه كان اختيارًا موفقًا، فالهجرة -في الحقيقة- استهلال لتاريخ جديد، واعلان لقيام الدولة الإسلامية الجديدة التي قامت عالميةً منذ البداية، عالميةً في وثائق تأسيسها، وفي أصولها ومبادئها، وكذلك في عناصر تركيبها السكاني، فكما ضمت العرب من قريش ويثرب وما حولها، ضمت اليهود، وضمت سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي رضي الله عنهم، ولعل هؤلاء كانوا رموزًا لأممهم وشعوبهم التي دخل معظمهم ضمن دولة الإسلام بعد سنوات قلائل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى