مقالات تاريخية

جامع قُرطبة ودوره في إثراء الحياة العلمية

تاريخ مدينة قرطبة

بقلم/ د. زين العابدين كامل

يُعد جامع قرطبة من أهم الآثار والمعالم الحضارية، وقد بدأ بناءَه وتشييده عبد الرحمن الداخل عام (170هـ /786م)، ومن بعده ابنه هشام الأول، وكان كل حاكم يتولى، يضيف جديدًا لهذا الجامع، إما بزيادة سعته وإجراء توسعات له، أو يقوم بتزينه ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة؛ ولذا يعد جامع قرطبة من أعظم الروائع المعمارية في العالم.

ولقد قام الحميري في كتابه -الروض المعطار في خبر الأقطار- بوصف الجامع وصفًا تفصيليًّا دقيقًا، فقال: «وبقرطبة الجامع المشهور أمره، الشائع ذكره، من أَجَلِّ مساجد الدنيا؛ كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة، وإتقانَ بنية، تَهَمَّم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حُسْنِه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولًا وعرضًا؛ طوله مائة باع وثمانون باعًا، ونصفه مسقَّف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد أقواس مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسَوَارِي مسقفه بين أعمدته وسَوَارِي قببه صغارًا وكبارًا مع سَوَارِي القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثُرَيَّا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلُّها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي[16]، ارتفاع الجائزة[17] منه شبر في عرض شبر إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا، وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يشبه بعضها بعضًا، قد أُحكم ترتيبها وأُبدع تلوينها بأنواع الحمرة، والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل، فهي تروق العيون، وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها، وسعة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام، وقاعدة رخام.

ولهذا الجامع قِبْلَةٌ يعجز الواصفون عن وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المُذَهَّب والبِلَّوْر مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله… وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران، واثنان زُرْزُوريَّان[18]، لا تُقَوَّم بمال، وعلى رأس المحراب: خَصَّة رخام قطعة واحدة مسبوكة منمَّقة بأبدع التنميق من الذهب واللَّازَوَرْدِ، وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريب، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً؛ خشبه أبنوس، وبَقْس، وعود المجمر، يُقَال: إنه صُنِعَ في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير مَنْ يخدمهم تصرفًا، وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطُسُوت[19] ذهب وفضة، وحَسَك[20]، وكلها لو قيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان.

وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله؛ فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان I الذي خَطَّه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويُخْرَجُ هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولَّى إخراجه قَوْمٌ من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسيٌّ يُوضَعُ عليه، فيتولَّى الإمام قراءة نصف حِزبٍ فيه، ثم يُرْفَعُ إلى موضعه، وعن يمين المحراب والمنبر باب يُفْضِي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط[21] مُتَّصِل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع، ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفَّحة بصفائح النحاس وكواكب[22] النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصِّ المُتَّخَذِ من الآجُرِّ الأحمر المحكوك، وأنواع شتَّى، وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.

وللجامع في الجهة الشمالية: الصومعة (المِئذنة)، الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي[23]، منها: ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما: من الجانب الغربي، والثاني: من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلا إذا وصلا الأعلى.

ووجه هذه الصومعة مُبَطَّن بالكَذَّان[24] منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.

وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صَفَّان من قِسِيّ أقواس دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مُؤَذِّنَان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا، واثنتان من فضة، وأوراق سَوْسَنِيَّة، تَسَعُ الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلًا من الزيت، ويخدم الجامع كله ستُّونَ رجلًا، وعليهم قائم ينظر في أمورهم[25].

ومن الجدير بالذكر: أن مسجدَ قرطبة لم يقتصر دوره على العبادة فقط، بل كان أيضًا جامعة علميَّة ثقافية بحثية، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى أوروبا، وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم والفنون، وكان طلاب العلم يَفِدُون إليها من الشرق والغرب؛ مسلمين كانوا أو غير مسلمين.

وقد احْتَلَّتْ حلقات العلم أكثر من نصف المسجد تقريبًا، وكان للعلماء رواتبٌ من الدولة ليتفرَّغُوا للتدريس والتأليف، وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت للمتميزين ومساعدات للمحتاجين؛ وهو الأمر الذي أثرى الحياة العلميَّة بصورة ملحوظة، واستطاعت قرطبة أن تُخْرِجَ للمسلمين وللعالم الجمَّ الغفير من العلماء، في جميع المجالات والعلوم.

مكتبات قرطبة:

كانت قرطبة تتمتع بكثرة مكتباتها، يقول المقري في نفح الطيب: «وهي أكثر بلاد الأندلس كتبًا، وأهلها أشد الناس اعتناءً بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعيين والرياسة، حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها؛ ليس إلا لأن يُقَال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به!»[26].

لقد كان حكام بني أمية يهتمون اهتمامًا بالغًا بالعلم والعلماء، وكانوا يبعثون التجار ليجوبوا البلاد من أجل شراء الكتب؛ لا سيما الكتب النادرة، ومِن هذه الكتب التي أرسل حكام بني أمية في طلبها: كتاب: «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني؛ حيث أرسل الخليفة الحكم المستنصر بالله (350 – 366هـ)، إلى أبي الفرج بألف دينار من الذهب نظير هذا الكتاب، فأرسل له الأخير نسخة منه قبل ظهوره بالعراق، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن الحكم؛ وقد أرسل كذلك الأمير عبد الرحمن الأوسط لعباس بن فرناس، الذي أحضر له كتاب: «القرش»، وبلغ ثمنه ثلاثمائة دينار.

قال ابن حَيَّان عِنْد ذكر الحكم: «كَانَ من أهل الدّين وَالْعلم رَاغِبًا فِي جمع الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة من الْفِقْه والحَدِيث، وفنون الْعلم باحثًا عَن الْأَنْسَاب، حَرِيصًا على تأليف قبائل الْعَرَب وإلحاق مَن درس نسبه أَو جَهله بقبيلته الَّتِي هُوَ مِنْهَا، مستجلبًا للْعُلَمَاء، ورواة الحَدِيث من جَمِيع الْآفَاق، يُشَاهد مجَالِس الْعلمَاء وَيسمع مِنْهُم ويروى عَنْهُم»[27]، فلم يُسمَعْ في الإسلام بخليفة بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب والدواوين.

وقد ذكر المقَّرِي عند حديثه عن مكتبة المستنصر: «أنه جَمَع مِن الكتب ما
لا يُحدُّ ولا يُوصَف كثرةً ونفاسةً!»[28].

ولقد ظهرت أولى المكتبات الأندلسية في أوائل القرن الثالث الهجري، عندما أسس الأمير عبد الرحمن الأوسط مكتبة ضخمة بمدينة قرطبة، ضمَّت كتبًا من جميع أنواع العلوم والفنون والآداب، حتى إن خزانة العلوم والكتب بدار بني أمية كانت تحوي من الفهارس التي فيها أسماء الكتب أربعًا وأربعين فهرسة، وفي كلِّ فهرسة عشرون ورقة، ليس فيها إلا أسماء الدواوين، وقد شملت خزانة الكتب أربعمائة ألف مجلد، وعندما أرادوا نقلها، استغرق النقل ستة أشهر[29].

هذا وقد اهتم بنو أمية بجلب الصُناع المهرة ممَّن يجيدون النسخ والضبط والتجليد وغيرها لإثراء المكتبات.

ومن الحكام الذين أسهموا بشكلٍ كبيرٍ في ازدهار الحركة العلمية، عبد الرحمن الناصر (300 – 350هـ /913 -962م)، حيث كان يتمتع بحبه الشديد للعلم والمعرفة، وقد اشتهر ذلك عنه وبلغت شهرته الآفاق، حتى إن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع لم يجد شيئًا يتقرَّب به إلى قلب الناصر حينما عزم على عقد معاهدة معه سوى أن يهديه كتابًا جديدًا لم يعرفه من قبل، وهو كتاب ديسقوريدس في الطب[30]، ولما تولَّى الحُكم الخليفة الحكم بن عبد الرحمن الناصر في عام (350هـ /962م)، جَعَل كل هدفه السير بالأندلس قدمًا في طريق العلم والمعرفة، فوجَّه اهتمامه إلى بناء وتعمير مكتبة قرطبة أو مكتبة القصر، علمًا بأن مكتبة الحكم كانت تشغل أحد أجنحة قصر الخلافة بقرطبة، وكان هذا الجناح هو ما يُعرَف في التاريخ باسم: «مكتبة الحكم»، أو «مكتبة قرطبة الأموية».

وقد تم بناء مكان خاص بالكتب بدلًا من مكتبة القصر، وقد اشتمل المكان الجديد على عِدَّة أقسام، كقسم البحث والتأليف، وقسم النقل والترجمة، وقسم التدقيق والمراجعة؛ وغير ذلك من الأقسام.

لقد انتشرت المكتبات في قرطبة، حتى أصبحت قرطبة عاصمة الأندلس في الكتب والمكتبات، وقد ذكر بعضُ الباحثين أن عددَ المكتبات العامة في قرطبة بلغ عشرين مكتبة؛ هذا بخلاف المكتبات الخاصة بالأمراء والقضاة والعلماء والفقهاء، وكانت الأندلس تحتوي على سبعين مكتبة عامة، بخلاف مئات المكتبات الخاصة[31]، وهكذا كان للخلفاء دور كبير في إثراء الحياة العلمية في قرطبة.

سقوط قُرطبة عاصمة الأندلس:

لقد مَرَّت مدينة قرطبة في أواخر عهدها ببعض الاضطرابات والتوترات السياسية، حيث كَثُر حولها الصراع بين ابن الأحمر، وابن هود، وهنا رأى فرناندو الثالث، أن الفرصةَ أصبحت مواتية لمهاجمة المدينة والاستيلاء عليها، فقام في شهر ربيع الآخر عام (633هـ/1236م)، بإرسال سرية من الفرسان لاستكشاف تحصينات المدينة، ومدى استعداد أهلها للدفاع عنها، وقد استطاعت السرية أن تستولي على العديد من الأبراج بالمدينة، ثم في شهر شوال من نفس العام، تقدَّم فرناندو بنفسه على رأس جيش نحو قرطبة، وحاصرها، واستطاع أن يدخلها ويستولي عليها، ثم رفع الصليبيون الصليب على قمة جامع قرطبة، ثم حولوا المسجد إلى كنيسة.

وهكذا سقطت جوهرة الأندلس التي كانت يومًا ما مركز الحكم والعاصمة.

سقطت مدينة العلوم والأدب والحضارة.

سقطت مفخرة المسلمين.

 

[16]  نوع من أنواع الخشب.
[17]  الجائزَةُ من البيت: سهم البيت، أي: الخشبة التي تَحْمِل خشب البيت. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة: جوز (5/326).
[18]  الزُّرْزُورُ: طائر من رتبة العصفوريات وهو أكبر قليلًا من العصفور، له ريش بنفسجي مائل إلى الخضرة، أو بريق أرجواني فاتح، أو هو حَجَرٌ أبيضُ رِخْوٌ، ومنه خَمْرِى أو أصْفَرَ وله بريق معدني
[19]  جمع طَسْت.
[20]  الحَسَكُ: من أدوات الحرب، ربما أُخذ من حديدٍ فأُلقي حول العسكر، وربما أُخذ من خشب فنصب حوله. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة: حسك (10/411).
[21]  السَّاباطُ: سَقيفةٌ بين حائطين أو بين دارين، ومن تحتها طريق نافذ. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادَّة: سبط (7/308)
[22]  كواكب: جمع كوكب، اللمعان والبريق للمعدن. وقيل: الكوكب المسمار. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادَّة: كوكب (1/720)، والزبيدي: تاج العروس، مادَّة: ككب (4/158).
[23]   الذراع الرشاشي: هو ثلاثة أشبار. انظر: الحِميري/الروض المعطار في خبر الأقطار (1/55).
[24]  الكذَّان: الحجارة الرَّخْوة النَّخِرة. انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادَّة كذذ (3/505)، ومادَّة: كذن (13/357).
[25]  الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار (1/456).
[26]  المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/463).
[27]  ابن الأبار، محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي، الحلة السيراء (1/201).
[28]  المقري، نفح الطيب (1/395).
[29]  ابن الأبار، المصدر السابق (2/203).
[30]  ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص493).
[31]  حامد الشافعي دياب، الكتب والمكتبات في الأندلس (ص95).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى