
بقلم/ د. زين العابدين كامل
تقع دُومة الجندل على طريق الشام قريبًا من تبوك، وبينها وبين المدينة قريب من (450كم).
وقد قيل: إن تاريخ دُومة الجندل يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، أي: يعود تاريخها إلى العهد الآشوري، وبذلك تُعد دومة الجندل من أقدم مواقع الاستيطان البشري بجزيرة العرب.
وقيل: إنها سُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى دوما بن إسماعيل، والجندل هو الحجر الصلب الذي أقيمت وبنيت به أغلب المنازل القديمة. وقيل: سميت بذلك؛ لأن حصنها مبنيّ بالجندل[1].
دومة الجندل في التاريخ الإسلامي:
بعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم، من غزوة بدر الثانية، والتي كانت في شهر شعبان عام 4هـ /626 م، وهي الغزوة التي تُعرف ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وبدر الصغرى، قد وصلته أخبار بأن بعض القبائل حول دومة الجندل تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعًا كبيرًا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألفٍ مِن المسلمين، وكان ذلك في شهر ربيع الأول عام 5هـ/627م.
فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يسير بالليل، ويكمن بالنهار؛ حتى يفاجئ الأعداء، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب مَن أصاب، وهرب مَن هرب، وأما أهل دومة الجندل ففروا في كلِّ وجه، فلما نـزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدًا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا، وبث السرايا وفرَّق الجيوش، فلم يصب منهم أحدًا، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن الفزاري، واستأذن عيينة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، في أن ترعى إبله وغنمه في أرض قريبة من المدينة[2].
وفي شهر شعبان عام 6هـ/628م، أرسل صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن بن عوف رضي الله عنه، على رأس سريَّة إلى دُومة الجندل؛ ليدعو فرع «بني كلب» إلى الإسلام، وهي السريَّة التي انتهت بإسلام ملكهم الأصبغ بن عمرو الكلبي مع خَلْقٍ كثير من قومه، وبقاء طائفة منهم على النصرانيَّة مع الرضا بالجزية، كما تزوَّج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، تماضر بنت الأصبغ عملًا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: “إِنْ هُمْ أَطَاعُوا فَتَزَوَّجْ بِنْتَ مَلِكِهِمْ”، وَكَانَ الْأَصْبَغ بن ثَعْلَبَة الْكَلْبِيّ شريفهم، فَتزَوَّج ابن عوف ابنته تماضر بنت الْأَصْبَغ[3].
وفي عام 9هـ /631م، بَعَث صلى الله عليه وسلم، سيفَ الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، إلى ملك دومة الجندل أُكَيْدِر بن عبد الملك السَّكونيّ، وكان نصرانيًّا، وأَمَر خالدًا وجنوده قائلًا: «إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى أَخْذِهِ فَخُذُوهُ وَلا تَقْتُلُوهُ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى أَخْذِهِ فَاقْتُلُوهُ»؛ وطمأن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، خالدًا رضي الله عن، ببشارة نبويَّة أنه سيأخذه وهو: «يَصِيدُ الْبَقَرَ»، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، وأسره خالد ، فلما أُتِيَ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سجد أُكَيْدر لرسول الله ، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بيده: «لا، لا» مرَّتين، وصالحه على الجزية، وحقن دمه، وخلَّى سبيله بعد أن كتب له كتابًا[4].
وهكذا عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أهل دُومة الجندل، وهذا يُظهر مدى درجات السلام والتعايش التي كان يحافظ عليها الرسول عليه الصلاة والسلام.
اجتماع الحكمين بدُومَة الجندل:
بعد موقعة صفين التي تقاتل فيها أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، بمَن معه من أهل العراق وغيرهم، تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء المعركة، وهو: أن يُحكِّم كلُّ واحدٍ منهما رجلًا من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكَّل معاوية عمرو بن العاص، ووكَّل عليٌّ أبا موسى الأشعري، رضي الله عنهم جميعًا، وكُتبت بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان ذلك في شهر صفر عام 37هـ/658م.
وقد اتفق الطرفان أن يكون مقر اجتماع الحكمين في دُومَة الجندل في شهر رمضان من نفس العام، فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين بعلمٍ ونظرٍ في تقدير أمور، ثم اتفقا على أن يعزلا عليًّا ومعاوية، ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم منهما أو من غيرهما[5].
وهكذا انعقد هذا الاجتماع التاريخي في دومة الجندل، واتفقوا بحضور الشهود على أن يكون هذا الاجتماع في العام المقبل في دومة الجندل، وإلى أن يحين موعد هذا الاجتماع يحكم كلٌ من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ما تحت يده في الدولة الإسلامية، وبعد تعيين الخليفة الجديد على الجميع أن يطيع الخليفة الجديد سواءً رأى قتل قتلة عثمان أولًا أو رأى تأخير ذلك.[6].
ومن المعالم الحضارية بدومة الجندل: مسجد عمر بن الخطاب، وهذا المسجد بناه الخليفة عمر بن الخطاب عام 17هـ /639م، وهو في طريقه إلى القدس[7][8].
[1] الحموي، معجم البلدان (2/478).
[2] ابن هشام، السيرة النبوية (2/213)، صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم (1/240).
[3] ابن هشام، المصدر السابق (1/251)، الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار (1/245).
[4] رواه النسائي في السنن الكبرى، كتاب: السير، (8836)، البيهقي، السنن الكبرى (18422)، ابن هشام، المصدر السابق (2/525) وابن عساكر، تاريخ دمشق (9/203).
[5] الطبري، تاريخ الرسل والملوك (6/58).
[6] الطبري، تاريخ الملوك والرسل (6/60)، ابن كثير، البداية والنهاية (7/336) ابن الجوزي، المنتظم (3/404).
[7] ابن كثير، المصدر السابق (7/336).
[8] مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.