تعد قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة خصوصًا في أحداث الفتنة الكبرى، وقد تاه فيها كثير من الكُتَّاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة -وعلى رأسها رواية أبي مخنف الكذاب- التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصًا أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة، ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بأنه كان صاحب مكر وخداع، وأن كل فريق صار يلعن الأخر ويسبه، فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل كثير من المسلمين، وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها. والحقيقة أن الأخبار الصحيحة في المصادر نادرة ولا تعطي صورة كاملة لأحداث التحكيم، إلا أننا مع هذه الندرة نستطيع أن نقف على أهم المعالم والمشاورات التي تمت في قضية التحكيم، وسأستخلص في هذا المقال تلك المعالم دون توسع وذكر الروايات، فقد ذكرتها بالتفصيل في كتابي: (تاريخ الخلفاء الراشدين)، وكذلك في كتاب (سبع شداد) الذي خصصته للفتن بين الصحابة، فمن أراد التوسع والتفاصيل والتحليلات يرجع لأيٍ من الكتابين. فأقول وبالله التوفيق:
1- من المتفق عليه أن الحكمين هما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما. واختيار أبي موسى هو اختيار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأيده عليه عبد الله بن عباس، واعترض عليه الخوارج، بل الخوارج اعترضوا على التحكيم منذ عرضه وكتابة وثيقته. وهذا عكس السردية الشهيرة من الروايات الضعيفة والموضوعة.
2- تغير رأي معاوية -رضي الله عنه- في الخلافة، فقبل صفين لم يكن معاوية يطمح في الخلافة، لكن بعد المعركة ومع قرار التحكيم، سعى معاوية -رضي الله عنه- لأن يتحصل على الخلافة عن طريق الحكمين، فتعهد على ذلك مع عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وراسل أبا موسى يرغّبه في ذلك لكنه رفض. أما لماذا تغير رأيه فهذا أمر فصلت فيه القول في الكتاب ويطول ذكره.
3- اجتمع الحكمان في دومة الجندل وهو مكان وسط بين الكوفة والشام وقد حضر ذلك العدد المتفق عليه في الوثيقة من أهل الشام 400 ومن أهل العراق 400 وحضر معاوية -رضي الله عنه- على رأس الشاميين ولكن عليًا -رضي الله عنه- لم يحضر لانشغاله بالخوارج، لكن عدم حضور الإمام علي -رضي الله عنه- أغضب أهل الشام وعلى رأسهم معاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وكان أول شيء أراد أن يسجله عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قبل تناول القضية نفسها أن يكتب وفاء أهل الشام وتخلف أهل العراق.
4- رأى الحكمان أن يجمعا الأمة على خليفة يرتضونه جميعًا، وبذلك ينتهي الخلاف من جذره، فاقترح أبو موسى: عبد الله بن عمر بن الخطاب، واقترح عمرو: معاوية، فحدث خلاف شديد بينهما في تلك المباحثات الأولى.
5- حدثت تهدئة بين الحَكمين بعد تلك الجلسة الأولى المضطربة، وفي هذه التهدئة بدأ النقاش في تولية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- الخلافة، سبيلًا لفض النزاع، مع بعض المفاوضات من عمرو لإثناء أبي موسى عن اقتراحه ومحاولة إقناعه بمعاوية، وكانت حججه في ذلك أن معاوية ولي دم عثمان، وصاحب سياسة، وأنه ذوشرف في قريش وأنه أخو أم المؤمنين وأنه صحابي.. وفي كل سبب كان أبو موسى يرد بحجج قاطعة، وفي الأخير، قال أبو موسى له: ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب. أي بتولية ابنه عبد الله.
6- لما رأى عمرو بن العاص إصرار أبي موسى على عدم تولية معاوية، واقتناعه بابن عمر، أراد أن يثنيه عن اختياره بإيجاد بديل شبيه بابن عمر، لكنه قريب من أهل الشام، فاقترح عليه ابنه عبد الله بن عمرو، فَقَالَ أبو موسى: إن ابنك رجل صدق، ولكنك قَدْ غمسته فِي هَذِهِ الْفِتْنَة! – فأين غفلة أبي موسى وخداع عمرو الذي انتشر في كتابات المؤرخين؟ أليس لو كان أبو موسى مغفلًا -كما زعموا- لاهتبل ترشيح عبد الله بن عمرو واغتر بصلاحه وأنهى الخلاف؟ لكنه كان من اليقظة والوعي أن يُحاج عمرا بأن ابنه غُمس في الفتنة فلا يصلح للخلافة. لقد تمسك أبو موسى باقتراح عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-، وهذا الترشيح يثبت تجرد أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- موضوعيته، فرغم أنه كان ممثِّلًا لعلي – رضي الله عنه- في التحكيم فإنه لم يجد غضاضة في أن يُسند الخلافة إلى غيره رغبة في الصلح العام، وهذا أيضًا يثبت كفاءة أبي موسى -رضي الله عنه- في إدارة التحكيم، ووعيه السياسي بالقضية فلا شك أنه يعلم أن عليًا -رضي الله عنه- أفضل من ابن عمر -رضي الله عنه- لكنه قدم المفضول الذي تجتمع عليه الأمة عَلَى الْفَاضِلِ الذي تختلف عليه! وهذا من فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد.
7- بدأت مفاوضات التحكيم تتجه إلى تولية ابن عمر -رضي الله عنه- الخلافة عن رغبة من الحكمين، ويتضح من الروايات أن الخلاف بين أبي موسى وعمرو -رضي الله عنهما- حول تولية عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- الخلافة قد زال ولو ظاهريًا، فالاثنان اتفقا على عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، لكن عَمرًا -رضي الله عنه- كان لا يزال راغبًا في تولية معاوية – رضي الله عنه- الخلافة، لذلك حاول أن يستميل ابن عمر إلى أن يتنازل لمعاوية – رضي الله عنه-، والذي شجع عَمرًا -رضي الله عنه- على ذلك هو رفض ابن عمر -رضي الله عنه- الصارم لتولي الخلافة حتى يجتمع الناس كلهم عليه.
8- اجتمعت الكلمة أخيرًا على تولية ابن عمر -رضي الله عنه- الخلافة وذلك عن غير رغبة منه، ويمكن أن نستظهر من سياق الروايات أنهم حددوا موعدًا لمبايعة ابن عمر -رضي الله عنه- ولما جاء الموعد خرج ابن عمر للناس وهو كاره الخلافة، وفي هذا المجلس لما رأى معاوية -رضي الله عنه- الاجتماع على تولية الخلافة لعبد الله بن عُمَرَ -رضي الله عنه- غَضِبَ وخطب مصرِّحًا بأحقيته في الخلافة من ابن عمر.
9- بعد خطبة معاوية -رضي الله عنه- هذه، حسم عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أمر توليته الخلافة بالرفض القاطع، حتى لا تصير الأمور إلى فتنة.
10- بعد رفض ابن عمر -رضي الله عنه- الخلافة لم يُطرح اسم آخر، وكانت الجلسة الختامية بين الحكمين تنحي موضوع تولية الخلافة أحدًا، وانتهت بأن أبا موسى أقر عليًّا -رضي الله عنه- وألزم بذلك عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، لكن عَمرًا طلب أن تكون ولاية له ولمعاوية، فأرجع أبو موسى الأمر لعلي -رضي الله عنه- في استعمالهما أو عزلهما. ولا شك أن هذه النتيجة لم تعجب معاوية وبها غضب على عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- لأنها خلصت إلى عزل معاوية.
11- يبدو أن مفاوضات التحكيم كانت ستستكمل طريقها لكن معاوية -رضي الله عنه- لما وصلته هذه النتيجة الأخيرة وغضب من عزله برضى عمرو، قرر أن يرحل من دومة الجندل بمن معه من أهل الشام، فانفض أمر التحكيم دون نتيجة حاسمة للنزاع، واستشرف أبو موسى أن الاقتتال سيعود من جديد، وبالفعل عسكر أمير المؤمنين عليٌّ -رضي الله عنه- قرب الكوفة على سمت الشام في منطقة تسمى النُّخَيْلَةُ متجهزًا لمعاودة المقاتلة مع معاوية بعد التحكيم، وعلى الناحية الأخرى كان معاوية يستعد لمجابهة وفرض سلطانه على مصر والبصرة، ولولا استفحال أمر الخوارج لحدث قتال جديد ولكانت فتنة أشد، ثم وقى الله المسلمين شرها بنبوءة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تحققت على يدي الحسن بن علي -رضي الله عنه- فتغير الحال في زمنه إلى صُلْحٍ عَامٍّ، وفي رأيي أن مبادئ صلح الحسن تأسست على مفاوضات التحكيم هذه. – بعد عرض كل هذه التفاصيل أتساءل: لماذا يتمسك الإعلاميون والمثقفون والباحثون بل والمؤرخون بالرواية الشهيرة؟