مقالات تاريخية

الجغرافيا تاريخ ساكن

الجغرافيا تاريخ ساكن

بصورة عامة لدى البشر-الدارسين منهم خاصة- ولع بالتاريخ، بمحطاته وحروبه وثوراته وغزواته وتقلباته، لكن من النادر أن يجري النظر إلى الجغرافيا، بوصفها هي الأخرى: تاريخًا، وإذا كان التاريخ يعتبر علم الزمان، فالجغرافيا تمثل علم المكان، ولا يمكن فصل عاملي المكان والزمان عن بعضهما، كذلك لا يمكن الفصل بين الجغرافيا والتاريخ؛ فالتاريخ بغير جغرافيا -كما قال بيتر هايلين- كالجثة الميتة لا حياة فيها أو حراك على الإطلاق.

ولقد أدرك كثير من المؤرخين هذه العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ، منذ أن كتب ميشليه كتابه عن تاريخ فرنسا (1833م)، ونقل هذا التاريخ من مجرد سلسلة من المنازعات وأخبار السياسة الداخلية، إلى إدراك حقيقي للتطور الذي حدث فوق مسرح معين هو أرض فرنسا، أي أنه تطور جغرافي، وقد كتب يقول: «بغير الأساس الجغرافي يبدو لنا أن الناس الذين يصنعون التاريخ كما لو كانوا يمشون في الهواء أي على غير أساس، أو أشبه بالرسوم المتحركة تتحرك على غير أرض، ويجب ألا ننظر إلى المكان على أنه مجرد مسرح لحوادث التاريخ فالمكان له تأثير يتجلى في أشكال عديدة مثل الطعام، والمناخ، وهو يؤثر في الجماعات البشرية كما يؤثر في الأفراد» وقد أصبح –بعد ذلك- من عادة المؤرخين الفرنسيين أن يصدروا دراستهم التاريخية بمقدمة جغرافية تشرح المسرح الذي جرت عليه الأحداث وأثرت فيها([1]).

لذلك يقول جمال حمدان: «ليس التاريخ -كما عبر البعض- إلا جغرافية متحركة، بينما أن الجغرافيا تاريخ توقف، وهما معًا أشبه بقرص الطيف([2]): إذا سكن على عجلته تعددت ألوانه، فإن هو دار وتحرك استحال لونًا جديدًا»([3]). فإننا إذا عرفنا الجغرافيا بشكل صحيح، نكون قد عرفنا «كل شيء عن نمط الحياة في هذا المكان أو ذاك، جغرافية الحياة التي إن بدأت من أعلى آفاق الفكر الجغرافي في التاريخ والسياسة فإنها لا تستنكف عن أن تنفُذ أو تنزل إلى أدق دقائق حياة الناس العادية في الإقليم»([4]).

فالمؤرخ المسلم بحاجة إلى الإحاطة والبحث في جغرافية الأحداث التي يؤرخ لها وتأثيرها على تاريخها، وممن عُني بتأثير الجغرافيا في حركة التاريخ: ابن خلدون، فكان يُرجع اختلاف البشر في ألوانهم وجسومهم وميلوهم ونشاطهم وصفاتهم الجسمية والعقلية إلى البيئة الجغرافية فكتب مقدمة في أثر الهواء في أخلاق البشر([5])، وكتب  في الجغرافيا الإقليمية؛ فوصف الأقاليم السبعة إقليمًا إقليمًا، وذكر أبرز ما في كل إقليم من الشعوب، والقبائل، والجُزُر، والجبال، والبحار، والأنهار، وتناول الجغرافيا السكانية؛ فعلل أسباب اختلاف توزيع السكان على الأقاليم وكثافتها في بعضها دون الأخرى، والجغرافيا الفلكية؛ فتحدث عما يسمى اليوم بالموقع الفلكي للعالم الإسلامي، كما درس البحر ومكانته في التاريخ الإسلامي، والجُزُر وأهميتها الإستراتيجية. واستيعاب ابن خلدون للجغرافيا أدى به إلى تفسيرات مهمة في التاريخ، فجعل فصلًا في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك، والسّبب في ذلك أنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالًا في القفر وأغنى عن حاجات التُّلول وحبوبها لاعتيادهم الشّظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتّوحّش ورئيسهم محتاج إليهم غالبًا للعصبيّة الّتي بها المدافعة فكان مضطرّا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم لئلّا يختلّ عليه شأن عصبيّته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم([6])، وفصلًا آخر في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان مُلكها أوسع… يعلل غلبة الأكراد والتّركمان وتوسعات ملكهم، فهم ليس لهم وطن يرتافون منه ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السّواء فلهذا لا يقتصرون على مَلكة قُطرهم وما جاورهم من البلاد ولا يقفون عند حدود أفقهم بل يظفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلّبون على الأمم النّائية([7]). وجعل فصلًا في أن عِظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة، والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما يكون بالعصبيّة وأهل العصبيّة هم الحامية الّذين ينزلون بممالك الدّولة وأقطارها وينقسمون عليها، فما كان من الدّولة العامّة قبيلها وأهل عصابتها أكثر كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطانًا وكان ملكها أوسع لذلك، وضرب مثلًا بالعُبيدين (الفاطميين) والموحدين، فقد كانت الدولة الفاطمية أطول عمرًا لأن عصبيتها من قبائل كُتامة كبيرة جدًا، ثم كان الموحدون أقل منهم([8]). إلى غير ذلك من ظواهر جغرافية في التاريخ والسياسة والاجتماع.

وأدى استيعاب ابن خلدون للجغرافيا إلى أنه وزّع مادة تاريخه الكبير توزيعًا لا يتبع الترتيب الزمني، حوليًّا أو غيره، بل بحسب الدول الحاكمة بكل قطر، وهذا توزيع يراعي الجغرافيا قبل التاريخ الزمني.

ولذلك يقول المستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي: «كل هذه المسائل التي تبحث في أثر الإقليم والوسط الجغرافي في حياة البشر لم يحدث أن أخضعت قبل ابن خلدون لفحص منظّم، فهو في هذا المضمار يجب أن يعد مُجَدِّدًا بلا ريب. ومثل أفكاره هذه لم تظهر في أوروبا إلا بعد مضي عدة قرون، وذلك ابتداء من مونتسكيو»([9]).

أحمد المنزلاوي – عضو اتحاد كتاب مصر.

([1]) «أساسيات الجغرافيا السياحية» رضا محمد السيد (ص67)، الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمان- الأردن، الطبعة الأولى 2016م.
([2]) يقصد: تجربة نيوتن الفزيائية المشهورة بقرص نيوتن، فكرتها أنه رسم دائرة وقسمها إلى سبعة أقسام، ودهن كل منطقة بلون من ألوان الطيف المرئي، ووضع تلك الدائرة على موتور وحركها، فوجد أن لونها تحول إلى أبيض، بسبب زيادة سرعة دوران تلك الدائرة، فأثناء الدوران تتراكب الأضواء الملونة فيبدو القرص أبيض اللون؛ نظرًا لورود الألوان إلى العين الواحدة تلو الأخرى.
([3]) «استراتيجية الاستعمار والتحرير» جمال حمدان (ص 9)، دار الهلال  1999م.
([4]) «شخصية مصر» جمال حمدان (1/18)، الهيئة المصرية العامة للكتاب -مكتبة الأسرة  2020م.
([5]) تاريخ ابن خلدون (1= المقدمة/ 108).
([6]) تاريخ ابن خلدون (1= المقدمة/ 189).
([7]) تاريخ ابن خلدون (1= المقدمة/ 181).
([8]) تاريخ ابن خلدون (1= المقدمة/ 204).
([9]) «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» إغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي، ترجمة: صلاح الدين عثمان (1/ 444)، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة  1963م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى