مقالات تاريخية

رسائل البريد العاجل إلى الشباب الحائر (9)

عبد الرحمن الداخل، صقر قريش

بقلم/ د. زين العابدين كامل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وبعد:

عبد الرحمن الداخل، صقر قريش:

فنعيش اليوم مع شاب أقام دولة بعد موتها، أحيا تاريخ دولة بعد اندثارها، إنه عبد الرحمن الداخل، صقر قريش.

هو: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، والمعروف بعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الأول، وصقر قريش، ([1])،        وكانت أمه أمة بربرية من قبيلة نَفْزَة المغربية (2).                                                      

ولد بالشام عام ( 113 هـ/731 م)، في خلافة جده هشام بن عبد الملك، فنشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي بدمشق.

وهو مؤسس الدولة الأموية في بلاد الأندلس، ولقد مكث عبد الرحمن بن معاوية، أربعة وثلاثين عامًا حاكمًا للأندلس ( 138- 172هـ/755 -788م).

دخول عبد الرحمن بن معاوية صقر قريش – بلاد الأندلس وتأسيس الإمارة الأُموية:                                                                          

يعتبر عبد الرحمن بن معاوية من الشخصيات المثيرة للدهشة وللافتة للنظر، وذلك نظرًا لما قام به من نجاح كبير، خلال فترة عصيبة، وقد تبلور ذلك في إقامته لدولة جديدة، بعد زوال دولة بني أمية في بلاد الشام، فهو من الشخصيات اللامعة في التاريخ الإسلامي.

وتبدأ رحلة عبد الرحمن بانتهاء موقعة الزاب وهزيمة مروان بن محمد أمام الجيوش العباسية، وذلك في شهر جمادى الآخرة عام ( 132هـ/ 750م)، وما تبع ذلك من إقامة للدولة العباسية.                                                                                                                                                                                                  ومن المعلوم أن بني العباس أقاموا دولتهم على أنقاض الدولة الأموية، ثم هدفوا إلى تعقب الأمويين والقضاء عليهم خشية أن يحاولوا استرداد سلطانهم، فقتلوا كثيرًا منهم، وقد نجا عبد الرحمن من العباسيين، واستطاع أن يهرب، وفكر في أن يتوجه صوب المغرب، وذلك حتى يكون بعيدًا عن العراق مركز النفوذ العباسي، وبالفعل تحرك عبد الرحمن نحو المغرب، وخلال رحلته مر على فلسطين ومصر وبرقة وطرابلس والقيروان وغيرها من المحطات والمدن، ثم لما وصل إلى أقصى المغرب فكر في أن ينتقل إلى بلاد الأندلس، حيث وجد عبد الرحمن أن الحالة السياسية في إفريقيا غير مستقرة، وأن عبد الرحمن بن حبيب الفهري يشتد على بني أمية بل وقتل عددًا منهم، وكان يفكر في أن يستقل ببلاد المغرب مستغلًا أحداث سقوط الدولة الأموية وقيام العباسية، وهنا قام عبد الرحمن الداخل بالهروب واستقر عند أخواله قبيلة نفزة بالقرب من مدينة طنجة، ثم أقام بالقرب من مضيق جبل طارق. وقد رافقه خلال رحلته مولاه بدر، وهو رومي الأصل، وقد أرسله عبد الرحمن إلى الأندلس ليقف على أحوالها، ومدى إمكانية انتقال عبد الرحمن إليها، وبالفعل عبر بدر المضيق في شهر ذي الحجة عام ( 136هـ/754م)، علمًا بأن الأندلس في ذلك التوقيت كانت تعاني من بعض التوترات السياسية.

لقد كانت السلطة في الأندلس آنذاك لرجلين؛ يوسف بن عبد الرحمن الفهري، والصميل بن حاتم، وقد أجرى بدر المفاوضات مع بعض أهل الأندلس على أن ينتقل عبد الرحمن الداخل إليها، وأن يتولى أمرها، وقد استطاع بدر أن يجمع كثيرًا من المؤيدين لعبد الرحمن بن معاوية، لاسيما من القبائل اليمنية، ثم عاد بدر إلى المغرب عام ( 137هـ / 754م)، وأخبر عبد الرحمن الداخل بما آلت إليه المفاوضات.

وبناءً على المعلومات التي وردت إلى عبد الرحمن، فقد تشجع إلى العبور نحو الأندلس، وقد صادفت رغبة عبد الرحمن طلب المؤيدين حيث استدعوه وطالبوه بالتعجل والعبور نحو الأندلس.

وبالفعل عبر عبد الرحمن المضيق في ربيع الآخر عام 138هـ، وهو يحمل حلمًا يرجو تحقيقه، وهو تأسيس دولة أموية في الأندلس، وبعبوره تبدأ مرحلة جديدة من مراحل التاريخ الإسلامي.

بعد عبور عبد الرحمن الداخل المضيق تمركز بقرية طُرُّش، واتخذها مقرًا له ولمؤيديه، وكثر أتباعه والتف الناس حوله.

لم يعلم يوسف الفهري بأمر بدر واجتماعاته، حيث كان مشغولًا بأعمال عسكرية في الشمال، ثم أتاه رسول يخبره بنزول عبد الرحمن بن معاوية بقرية طُرُّش، وباجتماع الناس حوله، وهنا أرسل يوسف الفهري إلى الصميل، وبعد اجتماعهما قررا التصدي لدخول عبد الرحمن الداخل، علمًا بأن يوسف الفهري قد حاول أن ينهي أمر عبد الرحمن الداخل باللين والرفق والطرق السلمية، حيث تفاوض معه وأرسل إليه هدايا وأموالًا وعرض عليه أن يزوجه من ابنته، وذلك مقابل التخلي عن مشروع الولاية، ولكن عبد الرحمن رفض ذلك، لاسيما مع كثرة من أيدوه، وانفضاض كثيرٌ من الجند من أتباع يوسف الفهري، حتى أصبحت المواجهة العسكرية والصدام بين الطرفين واقع لا محالة.

حشد عبد الرحمن جيشه وأنصاره من اليمنيين، وغادر طُرُّش متوجهًا على رأس جيشه نحو قرطبة، وفي المقابل حشد يوسف الفهري أنصاره من الفهرية والقيسية وغادر قرطبة متوجهًا صوب إشبيلية لوقف زحف عبد الرحمن الداخل، واصطحب معه الصميل بن حاتم، وفي العاشر من ذي الحجة عام ( 138هـ/ 756م)، عند الوادي الكبير، وقعت معركة حاسمة بين الطرفين، عُرفت بمعركة المُسارة، أو المُصارة، وقد انتصر فيها عبد الرحمن الداخل، وفر يوسف الفهري هاربًا، ودخل عبد الرحمن الداخل قرطبة وأخذ البيعة وأصبح أميرًا للأندلس.

وبدخول عبد الرحمن الداخل قرطبة يبدأ عهد الإمارة الأموية، وقد لقب أبو جعفر المنصور عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وذلك لبراعته وقوته ونجاحه في إقامة دولة بعد سقوطها([3])

 ذلك أنه جلس أبو جعفر المنصور يومًا في أصحابه، فسألهم: «أتدرون من هو صقر قريش؟»، فقالوا له: «أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء». قال: «ما صنعتم شيئًا»، قالوا: «فمعاوية»، قال: «ولا هذا»، قالوا: «فعبد الملك بن مروان»، قال: «لا». قالوا: «فمن يا أمير المؤمنين؟»، قال: «عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف، يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا، فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه.

وحين بدأ اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري، منعهم عبد الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، وهي علامة على نبوغه ورجاحة عقله، وفكرٍه السديد الصائب في تقديره للأمور، ونظرته الصائبة لفقه المآلات؛ حيث قال لهم: “لا تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم”، يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين([4]) .

وفي فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عامًا، كانت قد قامت عليه عشرات الثورات، ولكنه استطاع أن يكافحها ويقمعها، وتعتبر فترة حكمه من الفترات التي قويت فيها شوكة المسلمين في الأندلس.

الإنجازات التي حققها صقر قريش ببلاد الأندلس:

لقد اهتم صقر قريش ببناء جيش قوي، اعتمد فيه على الفصائل والأطياف المجتمعية المختلفة، كالقيسية واليمنية والبربر والصقالبة(4) ، حتى وصل تعداد الجيش في عصره إلى مائة ألف.

كذلك أنشأ عبد الرحمن أسطولًا بحريا يليق بدولته، وقام كذلك بإنشاء بعض المواني، وأنشأ أيضًا دورًا لصناعة الأسلحة.

لقد اهتم صقر قريش بالعلم والعلماء، والحسبة والقضاء، وقام ببناء مسجد قرطبة الكبير، وقد مر مسجد قرطبة خلال العصر الأموي بعدة مراحل ما بين البناء والتجديد والتوسعة.

وقام عبد الرحمن الداخل بتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وأقام دارًا لسك العملة الإسلامية في الأندلس، واهتم أيضًا بإنشاء الحدائق الكبيرة، والتي كانت تعرف برصافة الأندلس بضواحي قرطبة، وذلك على غرار رصافة الشام، ولذلك ازدهرت الحضارة في عصره.

قال محمد عبد الله عنان: “و أنشأ في شمال غربي قرطبة قصراً فخماً تحيط به حدائق زاهرة، وجلب إليها مختلف الغروس والبذور والنوى من الشام وإفريقية، وسمى تلك الضاحية الجديدة بالرُّصافة تخليداً لذكرى الرُّصافة التي أنشأها جده هشام بالشام، واتخذها مقاماً ومنتزهاً ومركزاً للإمارة، وكانت حدائق الرصافة أُماً لحدائق الأندلس”.

وقال ابن حيان:  “كان عبد الرحمن راجح العقل راسخ العلم واسع الحلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة متصل الحركة، لايخلد إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولايكل الأمور إلى غيره، شجاعاً مقداماً، بعيد الغور شديد الحدة قليل الطمأنينة، بليغاً مفهوماً شاعراً محسناً سمحاً سخياً طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم، إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدى له في منصرفه عنها رجل متظلم عامي وقاح ذو عارضة فقال له: أصلح الله الأمير، إن قاضيك ظلمني وأنا أستجيرك من الظلم، فقال له: تنصف إن صدقت، فمد الرجل يده إلى عنانه وقال: أيها الأمير أسالك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك، فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه، فرآهم قليلاً، ودعا بالقاضي وأمر بإنصافه، فلما عاد إلى قصره كلمه بعض رجاله ممن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى، فقال له: إن هذا الخروج الكثير – أبقى الله تعالى الأمير – لا يجمل بالسلطان العزيز، وإن عيون العامة تخلق تجلته، ولا تؤمن بوادرهم عليه، فليس الناس كما عهدوا، فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل، ووكل بذلك ولده هشاماً”(5).

ومن مآثر صقر قريش؛ أنه كان يشعر بأحوال الرعية، وكان يتألفهم، ويقضي لهم حوائجهم، فقد ذكروا أن رجلًا من جند قِنَّسْرين بالشام خاطبه يومًا قائلًا: “يابن الخلائف الراشدين، والسادة الأكرمين، وإليك فَرَرْت، وبك عُذْت، من زمنٍ ظلومٍ، ودهرٍ غَشُوم، قلَّلَ المال، وكثَّر العيال، وشَعَّث الحال، فصيَّر إلى نداك المآل، وأنت وليُّ الحمد والمجد، والمرجوَّ للرِّفْد”، فقال له عبد الرحمن مسرعًا: “قد سمعنا مقالتك، وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كُرْهنا لسوء مقامك، فلا تعودَنَّ ولا سِواك لمثله، من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة، والإلحاف في الطِّلب، وإذا أَلَمَّ بك خَطْبٌ، أو حَزَبَك أمر، فارفعه إلينا في رقعة لا تعْدُوك، كي نستر عليك خَلَّتك، ونكُفُّ شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالِكِك ومالِكِنا – عز وجهه – بإخلاص الدعاء، وصدق النية”.

لقد عاش عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل تسعة وخمسين سنة، منها تسعة عشر سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة بني أمية،، وست سنوات رحلة فراره من بني العباس وإقامته للدولة، ومكث أربعة وثلاثين عامًا حاكمًا للأندلس،    

تُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى وقيل في ربيع الآخر، وقيل في رمضان ( 172هـ/ 788م).  وترك من الولد أحد عشر ولدًا وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله، وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده، فرحمه الله رحمة واسعة.

ولعل التاريخ الإسلامي في الأندلس لا يقدم لنا شخصية تُضارع في قوتها وصدق عزيمتها، شخصية صقر قريش، فلقد خرج ذلك الشاب من غمار العدم بعد فقد أسرته وانهيار دولتهم، فأسس دولة عظيمة، شهد العالم بقوتها وحضارتها(6).

([1]) كانت كلمة الصقالبة تطلق في الأندلس على الأسرى من الأجناس السلافية، وكانوا مزيجًا من الإسبان والألمان والفرنسيين والإيطاليين، وكان عبد الرحمن يشتريهم في سن الطفولة من أوروبا، فكانوا أبناء نصارى أوروبا، ثم يقوم بتربيتهم وتنشئتهم تنشئة إسلامية عسكرية صحيحة.

([2]) المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (3/37).

([3]) راجع: لسان الدين ابن الخطيب: محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي الأندلسي، أبو عبد الله، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، الأبشيهي: شهاب الدين محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي أبو الفتح: المستطرف في كل فن مستطرف، أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، عبد المنعم الهاشمي: صقر قريش.

(4) الذهبي: سير أعلام النبلاء، (7/274).

([5]) المقرى: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، (1/333).

([6]) ابن خلدون: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر(4/262)، مجهول: أخبار مجموعة ص 65، محمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس، ص 146، عبد الرحمن حجي: التاريخ الأندلسي ص 216.

([7]) المقرى: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، (3/42)، أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة،(3/163).

 

زر الذهاب إلى الأعلى