
بقلم/ د. زين العابدين كامل سيد
تتمتع مدينة طُليطلة بموقع جغرافي إستراتيجي متميز، فهي الثغر الأوسط لبلاد الأندلس، وتُعدُّ مدينة طُليطلة من أقدم المدن في إسبانيا، حيث إنها كانت قائمة قبل الغزو الروماني لشبه جزيرة إيبريا؛ ولذا فإنها تعد مدينة إيبرية قديمة.
وقد استولى عليها الرومان عام 193م، وقبيل الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس كانت طليطلة تتبوأ المكانة الأولى في إسبانيا القوطية، وكانت قديمًا تعرف بمدينة الملوك.
لقد أُنشئت مدينة طليطلة في زمن الإغريق، وازدهرت في عهد الرومان، لكنها تفوَّقت سياسيًّا وحضاريًّا على سائر مدن الأندلس بعد الفتح الإسلامي لها؛ فقد عاشت طليطلة أزهى عصورها في العصر الإسلامي.
طُليطلة من الفتح الإسلامي إلى السقوط:
لقد تمكَّن المسلمون من فتح بلاد المغرب عام 92هـ /711م، ثم تحركت الجيوش الإسلامية نحو بلاد الأندلس بقيادة القائد البطل طارق بن زياد، وقد التقى المسلمون والقوط في شهر رمضان المبارك عام 92هـ /711م، وذلك بالقرب من وادي لكة، وهو سهل تحده من الجنوب سلسلة من التلال العالية، ويقع على ضفاف بحيرة خَندة، ونهر «بارباتي»، وعندما التحم الجيشان انتصر المسلمون وهُزم القوط هزيمة منكرة، ثم أسرع طارق بن زياد وتقدَّم نحو العاصمة طليطلة.
ويُذكر أن طارق بن زياد لما فتح العاصمة طليطلة، وجد بها زبور داود ومائدة سليمان عليه السلام، وقد نقل ابن عُذاري عن المسعودي، قال: «لما فتح طارق طُليطلة وجدَ بها بيت الملوك ففتحه، فوجد فيه زبور داود في ورقات الذهب مكتوبًا بماء ياقوت محلول من عجيب العمل الذي لم يكد يُر مثله، ومائدة سليمان، ووجد فيه أربعة وعشرين تاجًا منظمة بعدد ملوك القوطيين بالأندلس، إذا تُوفي أحدهم جعل تاجَه بذلك البيت، وفعل الملك بعده لنفسه غيره؛ جَرَت عوائدهم على ذلك، ووجد فيه قاعة كبيرة مملوءة بإكسير الكيمياء، فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك في دمشق»[1]، والله أعلى وأعلم بصحة هذا الخبر.
وبدخول طارق بن زياد مدينة طليطلة أصبحت خاضعة للحكم الإسلامي، وكذا بقية مدن الأندلس، وتعاقب عليها ولاة بني أمية، وذلك بعد أن أقام عبد الرحمن الداخل والمعروف بصقر قريش الدولة الأموية بالأندلس عام 138هـ/756م، وظلت طُليطلة وبقية مدن الأندلس على هذه الحال من الوحدة والتبعية للحكم الأموي حتى بداية القرن الخامس الهجري مع انقضاء الدولة العامرية التي كانت تدين اسمًا للأمويين.
ومع سقوط الدولة العامرية ومعها الخلافة الأموية في الأندلس، ومع ظهور الفتنة البربرية الكبرى في قرطبة؛ انفرط عقد الأندلس، واستقل كلُّ أمير بمنطقته، فظهرت حقبة ملوك الطوائف، وكانت طُليطلة من نصيب بني ذي النون الذين تعود أصولهم إلى البربر.
وفي ظل حالة الضعف والتمزق التي شهدتها بلاد الأندلس منذ مستهل القرن الخامس الهجري، بدأت القوى النصرانية تقوى؛ لا سيما الكاثوليك في الشمال.
ولما كانت طليطلة عاصمة القوط قبل دخول الإسلام، فقد نالها النصيب الأوفر من الهجوم النصراني؛ لا سيما وأنها تتمتع بأهمية بالغة من الناحية العسكرية والسياسية؛ نظرًا لموقعها الجغرافي، وهذا ما جعلها موضع الاهتمام من كلا الطرفين: الإسلامي، والإسباني النصراني.
وها هي طليطلة بعد أن كانت هي الثغر الذي يستقبل فيه عبد الرحمن الناصر الجزية من بلاد النصارى، ومنها تنطلق جيوش المسلمين، أضحت أسيرة في أيدي النصارى؛ فقد حاصرها ألفونسو السادس ملك قشتالة ما يقارب الأربع سنوات، ثم دخلها في شهر صفر عام 478هـ /1085م، وأصبح أهلها يؤدون الجزية لألفونسو، وأصبحت طليطلة هي العاصمة للنصارى؛ وذلك بسبب انشغال المسلمين بمحاربة بعضهم البعض، حيث تصارع ملوك الطوائف على المناصب، بل بعض الروايات تشير إلى تواطؤ بعض ملوك الطوائف مع ألفونسو[2].
مسجد باب المردوم:
تم بناء مسجد باب المردوم عام 390هـ/999م، وهو مِن أهم الآثار الإسلامية والمعالم الأثرية بمدينة طليطلة، وهو يُمثِّل أولى مراحل التطور التي مَرَت بها قباب جامع قرطبة؛ ولذا فهو يتمتع باهتمام الكثير من الباحثين، فهو أهم مساجد الأندلس بعد جامع قرطبة، ويتمتع هذا المسجد بتسع قباب، ويعرف هذا الجامع اليوم باسم: باب مردوم «Bib Mardom»؛ نسبة إلى بابٍ مجاورٍ له ما زال قائمًا، ويُعرَف باسم: «الباب المردوم».
ويقع مسجد باب المردوم في حي سان نيكولاس بمدينة طليطلة أمام أحد أبواب المدينة القديمة، وقد بُني المسجد في عصر الخلافة الأموية في الأندلس، وهو واحد من أقدم المعالم الأثرية الإسلامية في طليطلة.
قال الدكتور السيد عبد العزيز سالم في وصف مسجد باب المردوم: «والمسجد مربع الشكل على نظام الكنائس البيزنطية، لا يتجاوز طول الجانب منه ثمانية أمتار، وقد شُيِّدَت جدرانه من الحجر الجراني والآجر، وَفْقًا للأسلوب الذي اختصت به طليطلة، ويتكون المسجد من ثلاثة أروقة طولية تقطعها ثلاثة أروقة عرضية بحيث يحدث من ذلك التقاطع تسعة أساطين، تفصل بينها أربعة أعمدة تيجانها قوطية قديمة، يتفرع منها اثنا عشر قوسًا على شكل حدوة الفرس، ويعلو كل أسطوان من الأساطين التسعة قبة تتقاطع فيها الأقواس على نحو ما رأيناه في قباب قرطبة، والقبة الوسطى أكثر من القباب الأخرى ارتفاعًا.
ونظام التقبيب يقوم على تقاطع الضلوع المتجاوزة في صور مختلفة، منها ما يمثِّل شكلًا رباعيًّا منحرفًا ذا أقطار، بحيث يبدو كما لو كان قبوتين من الطراز القوطي إحداهما داخل الأخرى، ومنها ما يبدو على شكل مثمن، ومنها ما يقلد تقاطع القبة المخرمة الكبرى بجامع قرطبة، وتعرض قباب جامع باب المردوم تطورًا لقباب قرطبة نحو الزخرفة.
أما واجهة المسجد الرئيسية وهي: الواجهة الجنوبية الغربية، فتطل على الطريق المؤدي إلى باب مردوم بثلاثة عقود، وفي أعلاها النقش الكوفي، والقوس الأيمن من هذه الأقواس متجاوز على شكل حدوة الفرس، على مثال عقود جامع قرطبة، والقوس الأيسر مفصص، أما الأوسط فمجدد، ويعلو الأقواس الثلاثة التي تعتبر أبوابًا لبيت الصلاة، بائكة صماء من أقواس متقاطعة ويتوج هذه البائكة الزخرفية إفريز بداخله شبكة مخرمة من المعينات.
أما الواجهة التي تطل على صحن المسجد فتتألف من ثلاثة عقود متجاوزة بمثابة أبواب، تعلوها ستة أقواس متجاوزة صماء يتناوب فيها اللونان الأبيض والأحمر نتيجة لتعاقب قوالب الحجر والآجر على نظام أقواس جامع قرطبة».
وبعد استيلاء ألفونسو السادس على طليطلة عام 478هـ /1085م؛ منح المسجد لفرسان القديس يوحنا، ثم تم تحويله إلى كنيسة نور المسيح وهو الآن عبارة عن مزار سياحي، وأصبح اسمه: مسجد نور المسيح «Mezquita Cristo de la Luz»[3].
ولقد تميَّزت طليطلة بوجود مشاهير من العلماء بها: كابن بصال العالم النباتي الشهير، وابن وافد الطبيب، والعلامة الرياضي ابن سعيد مؤلف تاريخ العلوم المسمَّى: (طبقات الأمم)، والزرقالي، وعلامة طُلَيْطِلَة صاعد الأندلسي الطليطلي، وغيرهم.
وهكذا كانت طليطلة في التاريخ، هي مدينة العلم والعلماء…
مدينة الحضارة والتراث… ومدينة الملوك…
[1] ابن عذاري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب (1/45).
[2] محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس (3/113).
[3] السيد عبد العزيز سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي إلى السقوط، (ص404)، وانظر: محمد عبد الله عنان: الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال.


